أوّلا: خدمتهما والشّفقة عليهما.
فإنّ جزاء الإحسان لا ينبغي أن يكون إلاّ الإحسان، فهما اللّذان رعياك من قبل ولادتك، وبعد ولادتك من صِباك حتّى بلغت أشدّك، ولو عاين الأبناء ما يُقاسيه الوالدان من ألمٍ وعناء، وتعبٍ وبلاء، لحلفوا أن لا يستريحوا عن خدمتهما، ونذروا القيام تحت أقدامهما.
واستمع إلى واعظ الخير وهو يذكّرك بذلك:
أيّها المضيّع لآكد الحقوق، المستبدل ببرّ الوالدين العقوق، النّاسي لما يجب عليه، الغافل عمّا بين يديه، برّ الوالدين عليك دين، وأنت تتعاطاه باتّباع الشّين.
تطلب الجنّة بزعمك، وهي تحت أقدام أمّك، حملتك في بطنها تسع حجج، وكابدت عند الوضع ما يذيب المُهج[1]، وأرضعتك من ثديها لبنا، وأطارت لأجلك وَسَناً[2]، وغسلت بيمينها عنك الأذى، وآثرتك على نفسها بالغذا، وصيّرت حجرها لك مهدا، وأنالتك إحسانا ورفدا، فإن أصابك مرض أو شكاية، أظهرت من الأسف فوق النّهاية، وأطالت الحزن والنّحيب، وبذلت مالها للطّبيب، ولو خيّرَت بين حياتك وموتها، لطلبت حياتك بأعلى صوتها.
هذا، وكم عاملتها بسوء الخلق مرارا، فدعت لك بالتوفيق سرّا وجهارا، فلمّا احتاجت عند الكبر إليك، جعلتها من أهون النّاس عليك، فشبعتَ وهي جائعة، ورويت وهي قانعة، وقدّمْتَ عليها أهلك وأولادك بالإحسان، وقابلتَ أيَادِيَها بالنّسيان، وصعُبَ لديك أمرُها وهو يسير، وطال عليك عمرُها وهو قصير، هجرتها ومالها سواك نصير، هذا ومولاك قد نهاك عن التأفّف،وعاتبك في حقّها بعتاب متلطّف، ستعاقب في دنياك بعقوق البنين، وفي أُخراك بالبعد عن ربّ العالمين، يناديك بلسان التّوبيخ والتّهديد، {ذَلِكَ بِمَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ وَأَنَّ اللهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ}.
فإذا شعرت أنّ أحدهما يريد حاجة فاسْعَ في قضائها، وإن رغب أحدهما في جرعة ماء، أو شيئا من الأكل الشّهيّ فسارع إلى تحصيله وجلبه، والإتيان به وكسبه، فلا تضيّع أجر خدمتهما، فإنّ أعظم الجهاد فيهما.
وهاك من أخبار الأوّلين، ما يرغّب في ذلك ويبيّنه أعظم تبيين:
1- قصّة أصحاب الغار الثّلاثة .. حيث يخبرنا النبيّ صلّى الله عليه وسلّم عنهم قائلا:
(( انْطَلَقَ ثَلاَثَةُ نَفَرٍ مِمَّنْ كَانَ قَبْلَكُمْ حَتَّى آوَاهُمُ الْمَبِيتُ إِلى غَارٍ فَدَخَلُوهُ، فانْحَدَرَتْ صَخْرَةٌ مِنَ الْجَبَلِ فَسَدَّتْ عَلَيْهمُ الْغَارَ ! فَقَالُوا: إِنَّهُ لا يُنْجِيكُمْ مِنْ هذِهِ الصَّخْرَةِ إِلاَّ أَنْ تَدْعُوا اللَّهَ بِصَالِحِ أَعْمَالِكُمْ ))
فذكر عن كلٍّ منهم عملا من الأعمال الصّالحة، والشّاهد من الحديث قول أوّلهم:
(( اللَّهُمَّ كَانَ لِي أَبَـوَانِ شَيْخَانِ كَبِيرَانِ، وَكُنْتُ لاَ أَغْبُِقُ[3] قَبْلَهُمَا أَهْلاً وَلاَ مَالاً[4]، فَنَأَى[5] بِي طَلَبُ شَجَرٍ يَوْمًا، فَلَـمْ أُرِحْ[6] عَلَيْهِمَا حَتَّى نَامَـا، فَحَلَبْتُ لَهُمَا غَبُوقَهُمَا، فَوَجَدْتُهُمَا نَائِمَيْنِ، فَكَرِهْتُ أَنْ أَغْبِقَ قَبْلَهُمَا أَهْـلاً أَوْ مَالاً )).
كان بين خيارين: إمّا أن يُوقِظ الوالدين من النّوم, وإمّا أن يُطعِم الصِّبية. فلم يختر أيًّا من هذين الخيارين, ولكنّه اختار خيارًا ثالثًا، قال:
(( فَلَبِثْتُ وَالْقَدَحُ عَلَى يَدَيَّ أَنْتَظِرُ اسْتِيقَاظَهُمَا، حَتَّى بَرَقَ الْفَجْرُ )).
فهو طوال يومه على يسعى ويرعى ! والرّعي ليس سهلاً، بل هو من أشقّ المهن، فلا يجلس لحظة إلاّ ويطرد ويُبعِد، وحين رجع لم ينم ! بل ظلّ واقفاً، ولو أيقظهما للعَشاء لما أزعجهما.
بل كان أمامه منظر تتفطّر له الأفئدة، يصوّره لنا قائلا:
(( وَالصِّبْيَةُ يَتَضَاغَوْنَ عِنْدَ قَدَمَيَّ )) [والضُّغاء هو البكاء مع صياح، وقيل هو الصّياح من أجل الجوع].
(( فَاسْتَيْقَظَا، فَشَرِبَا غَبُوقَهُمَا، اللَّهُمَّ إِنْ كُنْتُ فَعَلْتُ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ وَجْهِكَ فَفَرِّجْ عَنَّا مَا نَحْـنُ فِيهِ مِنْ هَذِهِ الصَّخْرَةِ.
فَانْفَرَجَتْ شَيْئًا لاَ يَسْتَطِيعُونَ الْخُرُوجَ )). [متفق عليه].
وليتأمّل القارئ هذه القصّة – الّتي لولا أنّها وحيٌ لعُدّت من الخيال – وليعلم أنّ برّ الوالدين من أسباب الفرج.
2- وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: خرجت يوما من بيتي إلى المسجد، لم يُخرجْنِي إلاّ الجوع، فوجدت نفرا من أصحاب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، فقالوا:
يا أبا هريرة، ما أخرجك هذه السّاعة ؟ فقلت: ما أخرجني إلاّ الجوع ! فقالوا: نحن - والله - ما أخرجنا إلاّ الجوع !.
فقمنا فدخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: (( مَا جَاءَ بِكُمْ هَذِهِ السَّاعَةَ ؟)).
فقلنا: يا رسول الله ! جاء بنا الجوع. فدعا رسول الله صلّى الله عليه وسلم بطبق فيه تمر، فأعطى كلّ رجل منّا تمرتين، فقال:
(( كُلُوا هَاتَيْنِ التَّمْرَتَيْنِ، وَاشْرَبُوا عَلَيْهِمَا مِنَ المَاءِ، فَإِنَّهُمَا سَتُجْزِيَانِكُمْ يَوْمَكُمْ هَذَا )).
قال أبو هريرة رضي الله عنه: فأكلت تمرة، وخبّأت الأخرى. فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( يَا أَبَا هُرَيْرَةَ، لِمَ رَفَعْتَ هَذِهِ التَّمْرَةَ ؟)) فقلت: رفعتها لأمّي. فقال: (( كُلْهَا، فَإِنَّا سَنُعْطِيكَ لَهَا تَمْرَتَيْنِ )).
قال: فأكلتها فأعطاني لها تمرتين.[7]
وإذا تأمّلت هذه القصّة، بانَ لك جليّا أنّ برّ الوالدين من أسباب مضاعفة الرّزق بإذن الله عزّ وجلّ.
3- وقد لازم أبو هريرة رضي الله عنه أمّه يخدمها، ولم يحُجّ حتّى ماتت[8].
4- وهذا حُجر بن عديّ بن الأدبر رضي الله عنه: كان يلتمس فراش أمّه بيده، فيتّهم غِلَظ يدِه، فينقلب عليه على ظهره، فإذا أمِنَ أن يكون عليه شيء أضجعها[9].
5- وانظر حال الهذيل بن حفصة بنت سيرين: يقول هشام بن حسّان: كان الهذيل بن حفصة يجمع الحطب في الصّيف، فيُقشّره، ويأخذ القصب فيفلقه، قالت حفصة:وكنت أجد قَرَّةً [أي: البرد]، فكان إذا جاء الشّتاء، جاء بالكانون فيضعه خلفي، وأنا في مُصلاّي، ثمّ يقعد فيُوقد بذلك الحطب المقشّر وقودا لا يُؤذي دخانه، ويُدفئني، نمكث ذلك ما شاء الله.
قالت: وعنده من يكفيه لو أراد ذلك [أي: كان قادرا أن يكلّف خدَمه بذلك، ولكنّه يريد خدمة والدته].
قالت: وربّما أردت أن أقول له: يا بنيّ، ارجع إلى أهلك، ثمّ أذكر ما يريد فأدعه[10].
6- وعن الحسن بن نوح قال: كان كَهمَس رحمه الله – وهو الملقّب بالدَعَّاء – يكسح البيت، ويخدم أمّه. فأرسل إليه سليمان بن عليّ بصُرَّة، وقال: اشتر بها خادما لأمّك؛ لأنّه كان مشغولا بأمّه، وكان أبرّ شيء بأمّه، وألحّ عليه في قبولها فأبى، فألقاها في البيت ومضى. فأخذها كهمس، وخرج يتبعه حتّى دفعها إليه[11].
وكان رحمه الله يعمل في الجصّ كلّ يوم بدانِقَين [سدس درهم]، فإذا أمسى اشترى به فاكهة فأتى بها إلى أمّه.
ومن مظاهر حسن صحبة الوالدين:
ثانيا: الخوف عليهما، ودعوتهما إلى الخير.
فالخوف عليهما هو الدّليل على محبّتهما وتعظيمهما، وهما أحقّ النّاس بأن تدُلّهما على كلّ خير، وتنبّههما لاجتناب كلّ شرّ: تعلّمهما التّوحيد، وشعائر الإسلام، وتبذل لذلك وقتا كما تبذلك لأصحابك، فهم أحقّ النّاس بحسن الصّحبة.
وفي صحيح مسلم قال أبو هريرة رضي الله عنه: كنت أدعو أمّي إلى الإسلام وهي مشركة، فدعوتها يوما، فأسمعتني في رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ما أكره !
فأتيت رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وأنا أبكي، قلت: يا رسول الله، إنّي كنت أدعو أمّي إلى الإسلام، فتأبى عليّ، فدعوتها اليوم فأسمعتني فيك ما أكره ! فادعُ الله أن يهدِيَ أمّ أبي هريرة.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( اللَّهُمَّ اِِهْدِ أُمَّ أَبِي هُرَيْرَةَ )).
فخرجتُ مستبشرا بدعوة نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، فلمّا جئت فصرت إلى الباب فإذا هو مجافٍ، فسمعَتْ أمّي خَشْفَ قدمَيَّ، فقالت: مكانك يا أبا هريرة !
وسمعت خضخضة الماء، قال: فاغتسلَتْ، ولبِسَتْ درعها، وعَجِلت عن خمارها، ففتحت الباب، ثمّ قالت: يا أبا هريرة، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أنّ محمدا عبده ورسوله.
قال: فرجعت إلى رسول الله صلّى الله عليه وسلم، فأتيته وأنا أبكي من الفرح، قال: قلت: يا رسول الله، أبشر، قد استجاب الله دعوتك، وهدى أمّ أبي هريرة !
فحمد الله، وأثنى عليه، وقال خيرا ".
ولم يقف أبو هريرة عند هذا فحسب، بل كان يريد المرتبة العالية له ولأمّه:
قال:" قلت: يا رسول الله ! اُدْعُ الله أن يُحَبِّبَني أنا وأمّي إلى عباده المؤمنين، ويُحَبِّبهم إلينا.
فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلم: (( اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هَذَا - يعني أبا هريرة - وَأُمَّهُ إِلَى عِبَادِكَ المُؤْمِنِينَ، وَحَبِّبْ إِلَيْهِمْ المُؤْمِنِينَ )).
فما خلق مؤمن يسمع بي ولا يراني إلا أحبّني "اهـ.
ومن صور الشّفقة عليهما: أن تجتنب كلّ ما يدخل عليهما الحزن والأسى:
فالولد وهو يرى والديه يتألّمان من حاله، فعليه أن يُصلِح من شأنه، وليَعْلَم أنّه عاصٍ لله تعالى ما دام يؤلمهما ويُحزنهما.
وتأمّل ما ذكره الإمام الذّهبي رحمه الله عن الإمام أبي حنيفة رحمه الله: فقد قال يحيى بن عبد الحميد: ضُرب الإمامُ لِيَلِيَ القضاءَ، فأبى، فلمّا ضُرِبت رأسُه وأثّر ذلك في وجهه بكى، فقيل له في ذلك ؟!، فقال: إذا رأته أمّي بكت واغتمّت، وما عليّ شيء أشدّ عليّ من غمّ أمّي [12].
[يتبع إن شاء الله]
[1] المُهَج: جمع مهجة: وهو الدّم، وقيل: دم القلب خاصّة، وخرجت مهجته، أي: روحه.
[2] الوَسَن: هو النّعاس، ويقال: السِّنة، كالوعد والعِدة، والوصف والصِّفة.
[3] الغَبُوق: شرب آخر النهار ويقابله الصَّبُوح، والغَبُوقة: الناقة التـي تـحلب بعد الـمغرب [" لسان العرب "].
[4] أي: من رقيق وخدم، وكلّ ما يملكه الإنسان ويقبل البيع والشّراء يسمّى مالا.
[5] النَّأْيُ: البُعدُ، نَأَى يَنْأَى: بَعُدَ، والمراد أنّه استطرد مـع غنمه في الرّعي إلى أن بَعُد عن مكانه زيـادة على العادة، فلذلك أبطأ.
[6] أي: لم أرجع، ومنه قول العرب: يغدو ويروح.
[7] " سير أعلام النّبلاء "(2/592-593)، و" طبقات ابن سعد "(4/329).
[8] تاريخ ابن عساكر (47/517-517).
[9] " علوّ الهمّة " (5/649).
[10] " صفة الصّفوة " (4/25).
[11] "حلية الأولياء"(6/212).
[12] " مناقب الإمام أبي حنيفة " (ص15-16).