المقام الأوّل: مقام التّذكير بنعمته وتأييده لعبده ورسولِه عيسى عليه السّلام؛ فقال عزّ وجلّ:{إِذْ قَالَ اللَّهُ يَاعِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَعَلَى وَالِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا} [الآية: 110 من المائدة].
المقام الثّاني: مقام التّبشير والتأييد لمريم عليها السّلام، فقال جلّ وعلا:{إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلًا وَمِنَ الصَّالِحِينَ (46)} [آل عمران].
والمهد: هو مضجع الصّبيّ في رضاعه.
والكهل: من الكهولة، وهي مرحلة بين الشّباب والشّيخوخة، وأغلب علماء اللّغة يذكرون أنّها من ثلاث وثلاثين سنة إلى الشّيخوخة.
- أمّا الكلام في المهد فكان معجزة خارقة أن يتحدّث الرّضيع بحديث يُعجِز البلغاء، ويحسده عليه الدّعاة العلماء، قال تعالى:{قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً (30) وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً (31)} [مريم].
وروى البخاري ومسلم عن أبي هريرَةَ رضي الله عنه عنْ النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قالَ: (( لَمْ يَتَكَلَّمْ فِي الْمَهْدِ إِلَّا ثَلَاثَةٌ: عِيسَى عليه السّلام ...)) الحديث.
وفي ذلك نعمة عليه عليه السّلام، وعلى والدته إذ أثْبَتَ وأظهر براءتَها ممّا اتّهمت به.
وممّا يُثير العجب، أنّ النّصارى - وهم أحرص النّاس على ذكر معجزات المسيح عليه السّلام - لا يذكرون ولا يشيرون إلى هذه البيّنة !
ذلك لأنّ أوّل ما نطق به هو قوله:{إِنِّي عَبْدُ اللَّه} !
- أمّا الكلام حال الكهولة فأين وجه الإعجاز فيه ؟
ذلك من وجهين اثنين:
الأوّل: أنّ مريم عليها السّلام فهِمت من تبشير الله إيّاها بذلك أنّ ابنَها عليه السّلام سيعِيش إلى أن يصير كهلا، فكان ذلك توكيدا لقوله تعالى:{ فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلَّا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا} [مريم: 24].
الثّاني: أنّ المراد بالتّكليم هنا ليس التّكليم المعهود، وإنّما المراد به التّكليم الّذي يحصل به النّفع، وهو نعمة الوحي، وهو أجلّ النّعم.
كأنّ الله تعالى يقول لها مبشّرا: سيوحِي الله إليه وهو في المهد ليٌبرّئ والدتَه، ويوحِي إليه وهو كهل ليبلِّغ دعوة الله ورسالتَه.
لذلك قال القرطبيّ رحمه الله:" يكلّم النّاس في المهد آيةً، ويكلّمهم كهلا بالوحي والرّسالة ".
والله تعالى أعلم.