وإنّ أغلب شعراء الجاهليّة لمّا أسلموا هجروا الشّعر؛ لأنّهم رأوا غالبه - إن سلِم من الغزل المحرّم، والرّثاء المذموم - فهو مبنيّ على المفاخرة.
قال ابن المقفّع في "الأدب الصّغير"(135):
" وإن أنِسْت من نفسِك فضلاً، فتحرّج من أن تذكُره أو تُبدِيَه، واعلم أنّ ظهوره منك بذلك الوجه يقرّر لك في قلوب النّاس من العيب أكثرَ ممّا يقرّر لك من الفضل.
واعلمْ أنّك إن صبرت ولم تعجل، ظهر ذلك منك بالوجه الجميل المعروف عند النّاس "اهـ.
تنبيه: نصوصٌ يستدلّ بها من يمدح نفسه !
يخطِئ كثيرٌ من النّاس في الاستدلال بنصّين على غير وجههما، وهما:
النصّ الأوّل: قوله تعالى:{وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ} [الضّحى:11]، وتراه يغدو ويروح مادحا لنفسه، ثمّ يستدلّ بهذه الآية، وكأنّ الله تعالى قال لنبيّه: افتخر بنفسك ؟!
قال ابن القيّم رحمه الله تعالى في " أقسام القرآن " (ص47):
" أي: بلّغ هذا القرآنَ، وأظهرْ صِدْق نبوّتك، واشكُر الله تعالى على نعمته عليك، وذلك بأن تظهر عليك ..."اهـ
وإنّ المفسّرين جميعَهم ما قالوا: إنّ معنى الآية جواز مدح النّفس؛ قال ابن الجوزي رحمه الله تعالى:
" في النّعمة ثلاثة أقوال:
أحدهما النبوّة، والثّاني القرآن، رُوِيا عن مجاهد، والثّالث: أنها عامّة في جميع الخيرات، وهذا قول مقاتل "اهـ.
ويؤيّد المعنى الأوّل أو الثّاني أنّ الله تعالى قال لنبيّه صلّى الله عليه وسلّم:{مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ} [القلم:2]، أي بالوحي والنبوّة والقرآن.
النصّ الثّاني: ما رواه أبو داود عن جابرٍ رضي الله عنه عن النّبيِّ صلّى الله عليه وسلّم قال: ((مَنْ أُبْلِيَ بَلَاءً فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ، وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ)).
ويقرؤون الحديث بلفظ ( أَبْلَى ) بصيغة المبنيّ للمعلوم، وهو في الحقيقة مبنيّ للمجهول.
والمعنى كما قال صاحب "عون المعبود":
"( مَنْ أُبْلِيَ بَلاَءً ): بصيغة المجهول أي: أُعْطِيَ عطاء.
والبلاء يستعمل في الخير والشرّ، لكنّ أصله الاختبار والمحنة، وأكثر ما يستعمل في الخير: قال الله تعالى:{بَلاَءً حَسَنًا}.
( فَذَكَرَهُ فَقَدْ شَكَرَهُ ): من آداب النّعمة: أن يذكُر المعطي، فإذا ذكره فقد شكره، ومع الذّكر يشكره ويثني عليه.
( وَإِنْ كَتَمَهُ فَقَدْ كَفَرَهُ ): أي ستر نعمة العطاء، والكفر في اللّغة: الغطاء ".
(فصل) متى يجوز مدح النّفس ؟
إن كان هناك ما يقتضي الحديث عن النّفس وتزكيتها، فهو جائز بقدر تلك الحاجة، وضابط ذلك أن يقصِد:
أ) التّعريف بنفسه، ليُقبل منه الخير، ويُؤخذ منه النّصح.
ب) أو ليدفع عن نفسه التّهمة والشرّ.
قال الإمام النّووي رحمه الله في "الأذكار" (246-247):
" واعلم أنّ ذكر محاسن النّفس ضربان: مذموم ومحبوب:
فالمذموم: أن يُذكر للافتخار، وإظهار الارتفاع، والتّميّز على الأقران، وشبه ذلك.
والمحبوب: أن يكون فيه مصلحةٌ دينيّة، وذلك بأن يكون آمرا بمعروف أو ناهيا عن منكر، أو ناصحا بمصلحة، أو معلّما، أو مؤدّبا، أو واعظا، أو مذكّرا، أو مُصلِحاً بين اثنين، أو يدفع عن نفسه شرّا، أو نحو ذلك، فيذكر محاسنه ناويا بذلك أن يكون هذا أقرب إلى قبول قولِه، واعتمادِ ما يذكره. وقد جاء لهذا المعنى ما لا يُحْصَى من النّصوص "اهـ.
- فمن الأمثلة لمدح النّفس ليُقبل منه العلم والخير، ويُؤخذ منه النّصح:
قول النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَمَا واللهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ! لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ، وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ، وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ، فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي )) [متّفق عليه]. فإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال ذلك ليبيّن خطر العزوف عن سنّته، ويحذّر من الغلوّ والانحراف عن طريقته.
- ومنه أيضا ما رواه البخاري ومسلم عن شقيق بن سلمةَ قال: خطبنَا عبْدُ اللهِ بنُ مسعُودٍ رضي الله عنه فقال: وَاللَّهِ لَقَدْ أَخَذْتُ منْ فِـي رَسُولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم بِضْعًا وَسَبْعِينَ سُورَةً، وَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمَ أَصْحَابُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم أَنِّي مِنْ أَعْلَمِهِمْ بِكِتَابِ اللهِ، وَمَا أَنَا بِخَيْرِهِمْ.
قال شقيقٌ رحمه الله: فجلستُ في الحِلَقِ أسمعُ ما يقولون: فما سمعتُ رَادًّا يقول غيرَ ذلكَ.
وعن مسرُوقٍ رحمه الله قال: قال عبدُ اللَّهِ بنُ مسعودٍ رضي الله عنه:" وَاللَّهِ الَّذِي لَا إِلَهَ غَيْرُهُ، مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ أَيْنَ أُنْزِلَتْ، وَلَا أُنْزِلَتْ آيَةٌ مِنْ كِتَابِ اللهِ إِلَّا أَنَا أَعْلَمُ فِيمَ أُنْزِلَتْ، وَلَوْ أَعْلَمُ أَحَدًا أَعْلَمَ مِنِّي بِكِتَابِ اللهِ تُبَلِّغُهُ الْإِبِلُ لَرَكِبْتُ إِلَيْهِ ".
- ومن الأمثلة لمدح النّفس ليدفع الشرّ والتّهمة:
ما رواه أبو داود عن أبي أمامةَ بن سهْلٍ قال: كُنَّا مع عُثْمَانَ رضي الله عنه وَهُوَ مَحْصُورٌ فِي الدَّارِ، قُلْنَا:
يَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ ! قَال رضي الله عنه:
وَلِمَ يَقْتُلُونَنِي ؟ سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ: (( لَا يَحِلُّ دَمُ امْرِئٍ مُسْلِمٍ إِلَّا بِإِحْدَى ثَلَاثٍ: كُفْرٌ بَعْدَ إِسْلَامٍ، أَوْ زِنًا بَعْدَ إِحْصَانٍ، أَوْ قَتْلُ نَفْسٍ بِغَيْرِ نَفْسٍ ))، فَوَاللَّهِ مَا زَنَيْتُ فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا فِي إِسْلَامٍ قَطُّ، وَلَا أَحْبَبْتُ أَنَّ لِي بِدِينِي بَدَلًا مُنْذُ هَدَانِي اللهُ، وَلَا قَتَلْتُ نَفْسًا، فَبِمَ يَقْتُلُونَنِي؟
رضي الله عنه وأرضاه، والله الموفّق لا ربّ سواه.