فإنّ التّأخّر والتّقاعس عن التّبكير لمجلس العلم يدلّ على عدم توقير العلم، وعدم إجلاله. وقد أدرك ذلك الأوائل، فكانوا يحرصون على المجيء باكرا إلاّ من عذر.
وهذا ابن عبّاس رضي الله عنهما يغدو إلى زيد بن ثابت رضي الله عنه، فينام عند عتبة بابه ! ينام في الظّهيرة وينام في السّحر، يريد أن يُرِيَ اللهَ منه الجدّ، ويُشهده على صدق رغبته في العلم.
وقيل للشّعبي رحمه الله: من أين لك كلّ هذا العلم ؟ قال:" بنفي الاغتمام، والسّير في البلاد، وصبر كصبر الحمام، وبكور كبكور الغراب" ["سير أعلام النّبلاء" (4/300)].
2- الصّبر وتحمّل المشقّة في الطّلب:
فطلب العلم من معالي الأمور، والعُلَى لا تُنال إلاّ على جسر من التّعب، وطريق من النّصب. قال أبو تمام مخاطباً نفسه:
ذريني أنـالُ ما لا يُنال من العُـلى *** فصَعْبُ العلى في الصّعب والسَّهْلُ في السَّهل
تريـدين إدراك المعـالي رخيصـة *** ولا بـدّ دون الشّـهـد مـن إبَـر النّحل
وقال آخر :
دببت للمجد، والساعون قد بلغوا *** جُهد النفوس، وألقـوا دونـه الأُزرا
وكابدوا الـمجد حتى ملَّ أكثرُهُم *** وعانـق الـمجدَ من أوفى ومن صبرا
لا تحـسبنّ المجـد تمراً أنت آكله *** لن تبلغ المجد حتـى تَلْـعَقَ الصَّـبِِرَا
فلا بدّ من الصّبر والمصابرة، ولئن كان الجهاد ساعةً من الدّهر، فصبر طالب العلم إلى نهاية العمر؛ قال الله تعالى:{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَصَابِرُوا وَرَابِطُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ}.
روى مسلم في صحيحه عن يحى بن أبي كثير رحمه الله قال:" لا يُنال العلم بالرّاحة ".
وكلّنا يحفظ حديث عائشة رضي الله عنها في بدء الوحي، وقلّةٌ من يقرأ ما بين سطور ذلك الحديث العظيم.
- فترى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ( كَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ، فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا )، والله عزّ وجلّ قادرٌ على أن يرسِل جبريل عليه السّلام إلى الحبيب صلّى الله عليه وسلّم وهو في بيته، ولكنّه تعالى أراد أن نَفقه: أنّ العلم يُؤْتَى إليه ولا يأتي.
- وتأمّل قولها رضي الله عنها: (( فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ. قَالَ: فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الْجَهْدَ، ثُمَّ أَرْسَلَنِي ...)) فعل ذلك معه ثلاث مرّات.
قال العلماء: وكان بالإمكان أن يقول جبريل عليه السّلام للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم في أوّل مرّة:{إِقْرَأْ بِاسْمِ رِبِّكَ الَّذِي خَلَقَ}، ولكنّه غطّه ثلاث مرّات حتّى بلغ منه ما بلغ، حتّى يعلم طالب العلم أنّ العلم لا يُنال إلاّ بالتّعب والنّصب.
وكان إذا نزل الوحي على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يتفصّد عرقا في اليوم الشّديد البرد، وإذا كان على النّاقة جثت النّاقة، وأصاب عنقُها الأرضَ من شدّة ما يناله صلّى الله عليه وسلّم عند نزول الوحي.
- يدلّ على الأمر الأوّل ما رواه البخاري عن عائشة رضي الله عنها أَنَّ الحَارِثَ بنَ هشامٍ رضي الله عنه سَأَلَ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم فقال:" يَا رَسُولَ اللهِ، كَيْفَ يَأْتِيكَ الْوَحْيُ ؟ فقالَ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَحْيَانًا يَأْتِينِي مِثْلَ صَلْصَلَةِ الْجَرَسِ وَهُوَ أَشَدُّهُ عَلَيَّ، فَيُفْصَمُ عَنِّي وَقَدْ وَعَيْتُ عَنْهُ مَا قَالَ، وَأَحْيَانًا يَتَمَثَّلُ لِي الْمَلَكُ رَجُلًا فَيُكَلِّمُنِي فَأَعِي مَا يَقُولُ )).
قالت عائشة رضي الله عنها:" وَلَقَدْ رَأَيْتُهُ يَنْزِلُ عَلَيْهِ الْوَحْيُ فِي الْيَوْمِ الشَّدِيدِ الْبَرْدِ فَيَفْصِمُ عَنْهُ وَإِنَّ جَبِينَهُ لَيَتَفَصَّدُ عَرَقًا ".
- ويدلّ على الأمر الثّاني ما رواه أحمد عن عائشةَ رضي الله عنها أنّها قالت: إِنْ كَانَ لَيُوحَى إِلَى رسولِ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم وهوَ عَلَى رَاحِلَتِهِ، فَتَضْرِبُ بِجِرَانِهَا الأرضَ. [والجران: هو مقدّم العنق].
- بل روى البخاري عن زيدِ بنِ ثابتٍ رضي الله عنه قال: إنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْلَى عَلَيْهِ:{لَا يَسْتَوِي الْقَاعِدُونَ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ}، قال: فَجَاءَهُ ابنُ أُمِّ مَكْتُومٍ وَهُوَ يُمِلُّهَا عَلَيَّ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ الله، لَوْ أَسْتَطِيعُ الْجِهَادَ لَجَاهَدْتُ. وَكَانَ رَجُلًا أَعْمَى، فَأَنْزَلَ اللهُ تبارك وتعالى علَى رَسُولِهِ صلّى الله عليه وسلّم وَفَخِذُهُ عَلَى فَخِذِي، فَثَقُلَتْ عَلَيَّ حَتَّى خِفْتُ أَنَّ تَرُضَّ فَخِذِي، ثُمَّ سُرِّيَ عَنْهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ عزّ وجلّ:{غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ}.
فالعلم ثقيل؛ لأنّه رسالة عظيمة تحتاج إلى جهاد قائم، وجِدٍّ دائم.
وإنّ جهابذة أهل العلم رحمهم الله لم يصلوا إلى ما وصلوا إليه حتّى وثبوا إلى العلم وثبةَ الأسد، وفارقوا من أجله راحة النّفس والجسد، وذاقوا أنواع المعاناة والمشاقّ ما تعجز الأسطر عن وصفه، وضربوا في ذلك أروع الأمثلة مما لا تجده في علماء أمة من الأمم السابقة.
- قال أبو أحمد نصر بن أحمد العياضي الفقيه السمرقندي:" لا ينال هذا العلم إلاّ من عطّل دُكّانه، وخرّب بستانه ، وهجر إخوانه ، ومات أقرب أهله إليه فلم يشهد جنازته " ["الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع "].
قال الإمام بدر الدين بن جماعة معلّقاً:" وهذا كلّه -وإن كانت فيه مبالغة- فالمقصود به: أنّه لا بدّ فيه من جمع القلب، واجتماع الفكر..." ["تذكرة السامع والمتكلم" (1/36)].
- وقال صالح بن أحمد بن حنبل: رأى رجل مع أبي محبرةً ، فقال له: يا أبا عبد الله، أنت قد بلغت هذا المبلغ، وأنت إمام المسلمين ؟- يعني: ومعك المحبرة تحملها ؟!- فقال رحمه الله:" مع المحبرة إلى المقبرة " ["مناقب الإمام أحمد" لابن الجوزي (ص55).].
- وقال محمّد بن إسماعيل الصّائغ: كنت في إحدى سفراتي ببغداد، فمرّ بنا أحمد بن حنبل وهو يعدو ونعلاه في يده، فأخذ أبي هكذا بمجامع ثوبه، فقال: يا أبا عبد الله، ألا تستحي ؟ إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان ؟ قال: إلى الموت ["مناقب الإمام أحمد" (ص 32)].
- وقال الحافظ ابن كثير رحمه الله:" وقد كان البخاري يستيقظ في اللّيلة الواحدة من نومه، فيوقد السّراج، ويكتب الفائدة تمرّ بخاطره، ثمّ يطفئ سراجه، ثمّ يقوم مرّة أخرى وأخرى، حتّى كان يتعدّد منه ذلك قريباً من عشرين مرّة !" [" البداية والنّهاية " (11/25)، و"تذكرة الحفّاظ" (4/1219)].
- وهذا الحافظ محمّد بن فتوح الحميدي الأندلسي: كان ينسخ باللّيل في الحرّ، فكان يجلس في إجّانة ماء -وهي إناء يغسل فيه الثياب- يتبرّد به [" ترتيب المدارك " للقاضي عياض (1/130)].
وكانت هممهم العالية في طلب العلم تُعِينهم على الصّبر على الفقر، وشظف العيش ومرارته:
- قال الإمام الشّافعي رحمه الله:" لا يطلب أحدٌ العلم بالملك وعزِّ النّفس فيفلح، ولكن من طلبه ببذل النّفس، وضيق العيش، وخدمة العلماء أفلح " [مقدّمة "المجموع" للنّووي (1/64)].
- وهذا ابن القاسم رحمه الله يقول عن شيخه إمام دار الهجرة مالك بن أنس رحمه الله:" أفضى بمالكٍ طلبُ العلم إلى أن نَقَضَ سقف بيته، فباع خشبه !" [" ترتيب المدارك "].
- وقال عمرُ بن حفص رحمه الله: إنّهم فقدوا البخاريَّ أيّاماً من كتابة الحديث بالبصرة، قال: فطلبناه، فوجدناه في بيته وهو عريان، وقد نفد ما عنده ، ولم يبق معه شيء ، فاجتمعنا، وجمعنا له الدّراهم حتّى اشترينا له ثوباً وكسوناه، ثمّ اندفع معنا في كتابة الحديث" [" تاريخ بغداد " للخطيب (2/13)].
- وهذا إمام الشّافعية في زمانه، أبو إسحاق الشّيرازي رحمه الله صاحب "المهذّب في الفقه الشافعي"، اّلذي أشبعه العلماء شرحاً وتحقيقاً، وتخريجاً وتدقيقا، كان لا يملك شيئاً من الدنيا، فبلغ به الفقر مبلغه، حتّى كان لا يجد قوتاً ولا ملبساً، ولقد كان يأتيه طلبة العلم في سكنه، فيقوم لهم نصف قومة ! ليس يعتدل قائماً من العري، كي لا يظهر منه شيء ! ["طبقات الشافعية" للسبكي (3/90)].
- وهذا الإمام الواعظ ابن الجوزي يقول عن نفسه:" ولم أقنع بفنٍّ واحد، بل كنت أسمع الفقه والحديث، وأَتْبَعُ الزهّاد، ثمّ قرأت اللّغة، ولم أترك أحداً ممّن يروي ويعظ، ولا غريباً يَقْدُم إلا وأحضره، وأتخيّر الفضائل، ولقد كنت أدور على المشايخ لسماع الحديث، فينقطع نَفَسي من العدْوِ لئلاّ أُسبق، وكنت أصبح وليس لي مأكل، وأُمسي وليس لي مأكل، ما أذلّني الله لمخلوق قط، ولو شرحت أحوالي لطال الشّرح ".
والصّور المشرقة من هذا النّوع في حياة علمائنا كثيرة.
إنّ عامّة النّاس ليعجبُون من هذه الصّور والأمثلة الصادقة الّتي تدلّ على علوّ همّة أصحابها، فيتأثرون بها، فأحرى أن يؤثّر ذلك في طلبة العلم، والدّعاة، والمربّين.
وبقيّة الآداب في حقّ العلم نفسِه نراها لاحقا إن شاء الله.