الأوّل: ما ذكره الجوهريّ رحمه الله في " الصّحاح " (4/1362) فقال:" الرّأفة أشدّ الرّحمة ".
وقال الزّجّاج رحمه الله كما في " تفسير الأسماء " (62):" يقال: إنّ الرّأفة والرّحمة واحد، وقد فرّقوا بينهما أيضا، وذلك أنّ الرّأفة هي المنزلة الثّانية، يقال: فلان رحيم، فإذا اشتدّت رحمته فهو رؤوف ".
وقال أبو عبيدة في " مجاز القرآن " (1/59):" رؤوف: فعول من الرأفة وهي أشدّ الرّحمة ".
وقال الطّبري رحمه الله في " تفسيره " لقوله تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة من:143]:" والرّأفة أعلى معاني الرّحمة، وهي عامّة لجميع الخلق في الدّنيا ولبعضهم في الآخرة "، وقال في موضع آخر:" إنّها رقّة الرّحمة ".
وقال الأزهريّ في " تهذيب اللّغة " (15/238):" والرّأفة أخصّ من الرّحمة وأرقّ ".
الوجه الثّاني: فرّق الخطّابي رحمه الله في " شأن الدّعاء " (ص91) بفرق آخر فقال:" قد تكون الرّحمة في الكراهة للمصلحة، ولا تكاد الرّأفة تكون في الكراهة، فهذا موضع الفرق بينهما ".
ولقد ذكر القرطبيّ رحمه الله مثله في " الأسنى " فقال:" إنّ الرّأفة نعمة ملذّة من جميع الوجوه، والرّحمة قد تكون مؤلمة في الحال، ويكون في عقباها لذّة "اهـ.
فإن صحّ ما قاله رحمه الله، فلعلّه من أجل ذلك قال تعالى في الزّانِيَيْن:{وَلَا تَأْخُذْكُمْ بِهِمَا رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ} [النّور من الآية:2]، فالله أمر بإقامة الحدّ عليهما وذلك فيه رحمة بهما لتطهيرهما من الّذنب، وليرتدعا عن ذلك. ولكنّه نهى عن الرّأفة الّتي من أجلها ربّما عطّلوا حدّ الله عليهما أو أنقصوا منه.
وتقول لمن أصابه بلاء في الدّنيا في ضمنه خير في الأخرى: إنّ الله قد رحمه بهذا البلاء.
وتقول لمن أصابته عافية في الدّنيا في ضمنها خير في الأخرى واتّصلت له العافية أوّلا وآخرا وظاهرا وباطنا: إنّ الله قد رأف به.
لذلك قدّم الله ذكر الرّأفة فقال:{إِنَّ اللهَ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ}.
المبحث الثّاني: في معنى الاسم في حقّ الله عزّ وجلّ.
من خلال معناه اللّغويّ يتبيّن معنى الاسم في حقّ الله، فمعناه أنّه تعالى: الشّديد الرّحمة، والمنعم بالنّعم الخالصة من كلّ نقص.
قال الخطّابيّ:" هو الرّحيم العاطف برأفته على عباده ".
وقال الحليميّ رحمه الله في " المنهاج " (1/201): " الرّؤوف: ومعناه المتساهل على عباده، لأنّه لم يحمّلهم ما لا يُطيقون، بل حمّلهم أقلّ ممّا يطيقون بدرجات كثيرة ".
المبحث الثّالث: في إثبات هذا الاسم لله عزّ وجلّ.
فقد تكرّر ذكر هذا الاسم في القرآن الكريم في مواضع، فقال تعالى:{إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [البقرة من: 143]، وقال: {إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ} [النّحل من: 7]، وقال:{وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ} [البقرة من: 207]، إلى غير ذلك.
ولذلك عدّ العلماء جميعهم بلا استثناء هذا الاسم من أسمائه تعالى.
المبحث الرّابع: ثمرات معرفة هذا الاسم.
كلّ ما سبق ذكره في شرح اسمي ( الرّحمن والرّحيم ) يثبت عند معرفة هذا الاسم: محبّة الله، ورجاء عفوه ومغفرته، وحسن الظنّ به في خلقه وشرعه، والتماس هذه الرّأفة وطلبها.
ومن تأمّل المواطن الّتي ذكرت فيها صفة الرّأفة فإنّه يزداد يقينا بذلك و إيمانا، وراحةً واطمئنانا، فمن مظاهر رأفته عزّ وجلّ:
1- أنّ من ترك الشّيء لله سبحانه فليعلم أنّ الله سيعوّضه خيرا منه:
لأنّه تعالى رؤوف رحيم، قال تعالى:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (207)} [البقرة].
روى الحاكم في "المستدرك "[1] عن عكرمة رحمه الله قال: لمّا خرج صهيب رضي الله عنه مهاجرا تبعَه أهلُ مكّة فنثَلَ كنانته، فأخرج منها أربعين سهما، فقال:" لا تصلون إليّ حتّى أضع في كلّ رجل منكم سهما، ثمّ أصير بعدُ إلى السّيف فتعلمون أنّي رجل، وقد خلفت بمكّة قينتين، فهما لكم "، ونزلت على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللهِ..}، فلمّا رآه النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( أَبَا يَحْيَى، رَبِحَ البَيْعُ )) وتلا عليه الآية.
قال الشّيخ الطاهر بن عاشور رحمه الله:" ومناسبة هذا التّذييل للجملة أنّ المخبر عنهم قد بذلوا أنفسهم لله وجعلوا أنفسهم عبيده، فالله رءوف بهم كرأفة الإنسان بعبده .. فهو عامّ كما هو الظّاهر في كلّ من بذل نفسه لله، فالمعنى: والله رءوف بهم، فعدل عن الإضمار إلى الإظهار ليدلّ على أنّ سبب الرّأفة بهم أنّهم جعلوا أنفسهم عبادا له "اهـ.
2- وأنّه تعالى لا يضيع طاعة العباد:
فقد قال تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (143)}.
فقد نزلت لبيان أنّ من كان قد صلّى إلى بيت المقدس ثمّ حوِّلت القبلة إلى الكعبة فإنّ طاعته لن تضيع، وهو القائل:{إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا (30)} [الكهف]، وقال:{إِنَّ اللَّهَ لَا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120)} [التّوبة].
3- وأنّه تعالى يحذّر عباده عذابه: وذلك ليسألوه فضله ورحمته، ويستعيذوا من عذابه، والعذاب إمّا:
- في الآخرة: كما قال تعالى:{يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ (30)} [آل عمران].
روى ابن أبي حاتم عن الحسن قال: من رأفته بهم حذّرهم نفسه.
قال الشّيخ الطّاهر بن عاشور:" وذيّله هنا بقوله:{وَاللهُ رَؤُوفٌ بِالعِبَادِ} للتّذكير بأنّ هذا التّحذير لمصلحة المحذَّرين. والتّعريف في العباد للاستغراق: لأنّ رأفة الله شاملة لكلّ النّاس مسلمِهم وكافرِهم ... وما وعيدهم إلا لجلب صلاحهم "اهـ.
- أو في الدّنيا: كما قال تعالى:{ أَفَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئَاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذَابُ مِنْ حَيْثُ لَا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَمَا هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (47)} [النّحل].
4- وذكرت في مقام الإنعام: وذلك ليحثّ العباد على شكره، والنّعم إمّا:
- دينيّة: وأعظمها إنزال الكتب وإرسال الرّسل، قال تعالى:{هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلَى عَبْدِهِ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ وَإِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (9)} [الحديد].
- أو دنيويّة، كما قال تعالى وهو يذكر تفضّله على العباد بالأنعام:{وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ (7)} [النّحل].
5- وذكرت في مقام دعوة النّاس إلى الرّجوع إليه والتّوبة إليه: فقال تعالى:{ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ} [التّوبة من: 117].
فنسأل الله عزّ وجلّ رأفته ورحمته، وأن يدفع عنّا غضبه ونقمته، إنّه رؤوف رحيم، برّ كريم.