كان ذلك في السّنة العاشرة من البعثة ..
إنّه العام الّذي تُوُفِّيت فيه خديجة رضي الله عنها، وأبو طالب، وكان بين وفاة خديجة وأبي طالب شهر وخمسة أيّام.
فتتابعت على رسول الله صلّى الله عليه وسلّم المصائب .. من شقاء إلى شقاء .. فبعد عام الشِّعب والأحزان، ها هو رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُلقي نظرات الوداع على سندين من سند دعوته:
1- خديجة بنت خويلد رضي الله عنها: زوجُه ورفيقة دربه .. وكانت له وزير صدق على الإسلام.
وأمامه عند فراشها فاطمة وأخواتها: زينب وأمّ كلثوم .. أمّا رقيّة، فلا أحدَ يمكن أن يصف حزنها وهي وراء البحر غريبة ببلاد الحبشة.. الجميع يبكي على خير نساء العالمين .. أوّل من أسلم من النّساء، وأوّل من بذل ماله وحياته لنصرة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم .. المرأة الّتي كانت تمسح دموع النبيّ صلّى الله عليه وسلّم بمواساتها، وتمسح دماءه ببذلها وعطائها ..
امرأة تحمل هذا القدر من الإخلاص والوفاء جديرة بالرّثاء والبكاء .. فرحمها الله ورضي عنها وهنيئا لها (( بِبَيْتٍ فِي الجَنَّةِ مِنْ قَصَبٍ، لاَ صَخَبَ فِيهِ وَلاَ نَصَبَ )).
وما كانوا بأحزن منها وهي تودّع رسول الله صلّى الله عليه وسلّم .. تركته خائفة عليه .. تُرى ما الّذي سيحدث له من بعدها ؟ ..
روى البخاري عَنْ عُرْوَةَ بْنِ الزُّبَيْرِ رحمه الله قال: ( تُوُفِّيَتْ خَدِيجَةُ رضي الله عنها قَبْلَ مَخْرَجِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم إِلَى الْمَدِينَةِ بِثَلَاثِ سِنِينَ )).
لم يجد إلاّ أن يقول حبّا وصدقا ووحيا: (( مَا أَبْدَلَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ خَيْرًا مِنْهَا، قَدْ آمَنَتْ بِي إِذْ كَفَرَ بِي النَّاسُ، وَصَدَّقَتْنِي إِذْ كَذَّبَنِي النَّاسُ، وَوَاسَتْنِي بِمَالِهَا إِذْ حَرَمَنِي النَّاسُ، وَرَزَقَنِي اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَلَدَهَا إِذْ حَرَمَنِي أَوْلَادَ النِّسَاءِ )) [رواه أحمد].
فلم تزل مكانتها في قلبه حتّى غارت منها أمّهات المؤمنين، روى البخاري عن عائشةَ رضي الله عنها قالت:
" مَا غِرْتُ عَلَى امْرَأَةٍ لِلنَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، لِمَا كُنْتُ أَسْمَعُهُ يَذْكُرُهَا، وَأَمَرَهُ اللَّهُ أَنْ يُبَشِّرَهَا بِبَيْتٍ مِنْ قَصَبٍ، وَإِنْ كَانَ لَيَذْبَحُ الشَّاةَ فَيُهْدِي فِي خَلَائِلِهَا مِنْهَا مَا يَسَعُهُنَّ ". وفي رواية أخرى له أيضا قالت:
" مَا غِرْتُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ نِسَاءِ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم مَا غِرْتُ عَلَى خَدِيجَةَ، وَمَا رَأَيْتُهَا، وَلَكِنْ كَانَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يُكْثِرُ ذِكْرَهَا، وَرُبَّمَا ذَبَحَ الشَّاةَ ثُمَّ يُقَطِّعُهَا أَعْضَاءً ثُمَّ يَبْعَثُهَا فِي صَدَائِقِ خَدِيجَةَ، فَرُبَّمَا قُلْتُ لَهُ: كَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الدُّنْيَا امْرَأَةٌ إِلَّا خَدِيجَةُ، فَيَقُولُ: (( إِنَّهَا كَانَتْ، وَكَانَتْ، وَكَانَ لِي مِنْهَا وَلَدٌ )).
بعد هذه الموجة الشّديدة من الحزن، تلتها موجة أخرى.. كانت تحمل معها:
2- هلاكَ عمّه أبي طالب: الرّجل الّذي كان له عضدا وحرزا في أمره، ومنعة وناصرا على قومه .. الّذي رضي أن يعيش في الشّعب معه يقاسمه معاناته ..
جاء المرض فأقعده الفراش، وهو لا يزال على كفره، قد اشتعل رأسه بعيب قريش، كان يخشى النّقيصة، ويخشى أن تُعيِّره مكّة بعد موته بأنّه فارق دين آبائه وأجداده ! واشتدّ عليه المرض .. وكان لا بدّ من إنقاذه من الكفر ..
ولِمَ لا ؟ فإنّ القلوب بيد الله يقلّبها كيف يشاء .. لم لا يكون أمره أمرَ ذلك الغلام اليهوديّ الّذي أسلم قبل أن يلفِظ أنفاسه الأخيرة ؟
روى البخاري وغيره عن أَنَسٍ رضي الله عنه قال:
كَانَ غُلَامٌ يَهُودِيٌّ يَخْدُمُ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم، فَمَرِضَ، فَأَتَاهُ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم يَعُودُهُ، فَقَعَدَ عِنْدَ رَأْسِهِ، فَقَالَ لَهُ: (( أَسْلِمْ !)) فَنَظَرَ إِلَى أَبِيهِ، وَهُوَ عِنْدَهُ، فَقَالَ لَهُ: (( أَطِعْ أَبَا الْقَاسِمِ !)) فَأَسْلَمَ، فَخَرَجَ النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم، وَهُوَ يَقُولُ: (( الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْقَذَهُ مِنْ النَّارِ ))..
لِمَ لا يكون حاله كحاله ؟ فلا يجوز أن ييأس العبد من روح الله:{وَلا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ} [يوسف: من الآية87]..
لكنّ الحال هنا مختلف .. إنّ هذا الغلام كان خادماً للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم .. فبمَ يعيّر ؟
كان أمام أبي طالب حاجزان منيعان، إن زال أحدهما بقي الآخر ..
الأوّل: العصبيّة القبليّة .. وليس هناك أخطر من العصبيّة .. وقِس عليها العصبيّة للجاه، والعصبيّة للمال، والعصبيّة للشّيوخ .. قال تعالى:{وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ} [الأحقاف: من الآية11]..
الثّاني: رفقاء السّوء ..
روى البخاري ومسلم عن المسَيَّبِ بنِ حَزَنٍ رضي الله عنه قال: أنَّهُ لَمَّا حَضَرَتْ أَبَا طَالِبٍ الْوَفَاةُ، جَاءَهُ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، فوجد عِنْدَهُ أَبَا جَهْلِ بْنَ هِشَامٍ ! وَعَبْدَ اللهِ بْنَ أَبِي أُمَيَّةَ بْنِ الْمُغِيرَةِ !
قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم لِأَبِي طَالِبٍ: (( يَا عَمِّ ! قُلْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ، كَلِمَةً أَشْهَدُ لَكَ بِهَا عِنْدَ اللَّهِ )).
فقال أَبُو جَهْلٍ وَعَبْدُ اللهِ بْنُ أَبِي أُمَيَّةَ: يَا أَبَا طَالِبٍ، أَتَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ؟
فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَعْرِضُهَا عَلَيْهِ، وَيَعُودَانِ بِتِلْكَ الْمَقَالَةِ، حَتَّى قَالَ أَبُو طَالِبٍ آخِرَ مَا كَلَّمَهُمْ:
هُوَ عَلَى مِلَّةِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ ! وَأَبَى أَنْ يَقُولَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ.[وَقَالَ: لولا أن تعيّرني قريش يقولون: إنّما حمله على ذلك الجزع لأقررت بها عينك][2] فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَمَا وَاللَّهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ، مَا لَمْ أُنْهَ عَنْكَ )).
فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ:{مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَى مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ} [التوبة:113].. وأنزل الله في ذلك قوله:{إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ} [القصص:56].
بطل من الأبطال، تراه يحطّ رحاله في نار جهنّم - والعياذ بالله - .. لأنّه رفض النّطق بالحقّ ..
روى البخاري ومسلم عن عَبَّاسِ بنِ عبدِ المطَّلِبِ رضي الله عنه قال: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هَلْ نَفَعْتَ أَبَا طَالِبٍ بِشَيْءٍ ؟ فَإِنَّهُ كَانَ يَحُوطُكَ وَيَغْضَبُ لَكَ. قَالَ: (( نَعَمْ، هُوَ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نَارٍ، لَوْلَا أَنَا لَكَانَ فِي الدَّرَكِ الْأَسْفَلِ مِنْ النَّارِ )).
هذه هي حدود رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أمام قوله تعالى:{فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ} [المدثر:48]..
هذا كلّ ما يستطيع أن يفعله ويقول لمن حوله والحسرة في صدره: (( لَعَلَّهُ تَنْفَعُهُ شَفَاعَتِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ، فَيُجْعَلُ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ النَّارِ يَبْلُغُ كَعْبَيْهِ يَغْلِي مِنْهُ دِمَاغُهُ )) [البخاري ومسلم].
ولنا لاحقا إن شاء الله تعالى وقفات مع هذه الفاجعة نقتبس منها فوائد لمن يدّكر، وعبرا لمن يعتبر.