2- أنّها حيّة، فقد نقل أبو عبيدة معمر بن المثنّى في " غريب الحديث " له عن يونس بن عبيد الجرمي، أنّه سأل رؤبة بن العجّاج فقال: هي حيّة تكون في البطن تصيب الماشية والنّاس, وهي أعدى من الجرب عند العرب.
قال الحافظ رحمه الله:" فعلى هذا، فالمراد بنفي الصّفر: ما كانوا يعتقدونه فيه من العدوى "اهـ.
3- أنّ المراد به شهر صفر, وذلك أنّ العرب كانت تحرّم صفر، وتستحلّ الحُرُم، كما هو معروف في النّسيء, فجاء الإسلام بردّ ما كانوا يفعلونه من ذلك، وأنّ صَفر ليس من الأشهر الحرم؛ قال صلّى الله عليه وسلّم: ( لاَ صَفَرَ ).
قال ابن بطّال رحمه الله: وهذا القول مرويّ عن مالك.
فعلى قول من فسّره بشهر "صفر" – وهو المشهور – فلماذا سمّي بهذا الاسم ؟
ملخّص ما جاء في " لسان العرب " أنّ ( صفرا ) هو الشّهر الذي بعد المحرّم، وسمّي بذلك:
- إمّا لأنّهم كانوا يجمعون ويدّخرون فيه الطّعام، لأنّهم صفروا من الطّعام، أي: فقدوه، تقول العرب: صَفَرَ الإناءُ: إذا خلا من الطّعام، ومنه سمّي الصِّفر صِفرا.
- وقال بعضهم: سمّي بذلك لإصفار مكّة من أهلها إذا سافروا.
- وروي عن رؤبة أنّه قال: سمّوا الشّهر صفرا؛ لأنّهم كانوا يغزون فيه القبائل، فيتركون من لقُوا صفرا من المتاع، وذلك لأنّ صَفَراً بعد المحرّم الذي حُرّم فيه القتال، فقالوا: صفر النّاس منّا صفرا .اهـ
ولذلك كان العرب يتشاءمون به، وبعضهم كان يسمّيه (صَفَر الخير) تفاؤلا، ولا ريب أنّها لوثة جاهليّة.
[انظر:" معجم المناهي اللّفظية "(340)].
وقال العلاّمة الطّاهر بن عاشور رحمه الله:
" ومن الضّلالات التي اعتقدها العرب: اعتقاد أنّ شهر صفر شهر مشؤوم، وأصل هذا الاعتقاد نشأ من استخراج معنى ممّا يقارن هذا الشّهر من الأحوال في الغالب عندهم، وهو: ما يكثر فيه من الرّزايا بالقتال والقتل؛ ذلك أنّ شهر صفر يقع بعد ثلاثة أشهر حرم نسقا، وهي ذو القَعدة وذو الحجّة والمحرّم، وكأنّ العرب يتجنّبون القتال والقتل في الأشهر الحرم، لأنّها أشهر أمن، قال تعالى:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ} [المائدة:من الآية97]. فكانوا يقضون الأشهر الحرم على إِحَنٍ من تطلّب الثّارات والغزوات، وتشتّت حاجتهم في تلك الأشهر.
فإذا جاء صـفـر بادر كلّ من في نفسه حنقٌ على عدوّه فثاوره، فيكثر القتل والقتال ! ولذلك قيل: إنّه سمّي " صـفـرا " لأنّهم كانوا يغزون فيه القبائل، فيتركون من لقوه صفرا من المتاع والمال، أي: خلوا منهما..
ولذلك كان من يريد العمرة منهم لا يعتمر في صفر إذ لا يأمن على نفسه، فكان من قواعدهم في العمرة أن يقولوا:" إذا برأ الدّبر، وعفا الأثر، وانسلخ صفر، حلّت العمرة لمن اعتمر".
وقد شاع بين المسلمين أن يصِفوا شهر صفر بقولهم: صفر الخير !
فلا أدري: هل أرادوا به الردّعلى من يتشاءم به ؟ أو أرادوا التّفاؤل لتلطيف شرّه، كما يقال للملدوغ: السّليم ؟ وأيّا ما كان، فذلك الوصف مؤذنٌ بتأصّل عقيدة التّشاؤم بهذا الشّهر عندهم.
بل بالغ بعضهم فنسبوا إلى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ما لم يقلْه في فضل هذا الشّهر، من ذلك حديث: ( مَنْ بَشَّرَنِي بِدُخُولِ صَفَر، بَشَّرْتُهُ بِالجَنَّةِ )، وهو حديث لا أصل له.
[انظر: "الفوائد المجموعة"(1258)، "كشف الخفاء" (2418)، "اللؤلؤ المرصوع" (544)].
المبحث الثّاني: في دفع مشكل الحديث.
صدر هذا الحديث ينفِي العَدْوى، حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: (( لاَ عَدْوَى ))، وظاهر آخر الحديث يثبتها، حيث قال صلّى الله عليه وسلّم: (( وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ )).
ويؤيّد أوّل الحديث - وهو ما ينفي العدوى - ما رواه البخاري ومسلم أيضا أنّ أبا هريرةَ رضي الله عنه قال: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لَا عَدْوَى، وَلَا صَفَرَ، وَلَا هَامَةَ )) فَقَالَ أَعْرَابِيٌّ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! فَمَا بَالُ إِبِلِي تَكُونُ فِي الرَّمْلِ كَأَنَّهَا الظِّبَاءُ، فَيَأْتِي الْبَعِيرُ الْأَجْرَبُ فَيَدْخُلُ بَيْنَهَا فَيُجْرِبُهَا ؟ فقال صلّى الله عليه وسلّم: (( فَمَنْ أَعْدَى الْأَوَّلَ ؟ )).
ويؤيّد آخر الحديث - وهو ما يُثبت العدوى - ما رواه البخاري ومسلم كذلك عن أَبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَا يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ )).
والجواب المرتضى إن شاء الله في هذه المسألة أن يقال:
إنّ عرب الجاهليّة كانوا يعتقدون أنّ الأشياء مؤثّرةٌ بنفسها، وأنّ العدوى تنتقل بنفسها، فأراد النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يصحّح لهم هذا الاعتقاد، وبأنّه ما من شيء إلاّ وهو حادث بإذن اللّه تبارك وتعالى، فقال: (( لاَ عَدْوَى )) أي: الّتي تعتقدونها؛ لذلك قال للأعرابيّ: (( فَمَنْ أَعْدَى الأَوَّلَ ؟)).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:
" وهو جواب في غاية البلاغة والرّشاقة، وحاصله: من أين الجربُ للّذي أعدى بزعمهم ؟
فإن أجيب من بعير آخر، لزم التّسلسل.
أو سبب آخر فليفصح به.
فإن أجيب: بأنّ الّذي فعله في الأوّل هو الذي فعله في الثّاني ثبت المُدَّعى، وهو أنّ الذي فعل بالجميع ذلك هو الخالق القادر على كلّ شيء وهو الله سبحانه وتعالى "اهـ.
ثمّ نقل عن القرطبي رحمه الله قوله:
" وهذه الشّبهة الّتي وقعت للأعرابيّ، هي الّتي وقعت للطّبائعيين أوّلا، وللمعتزلة ثانيا، فقال الطّبائعيّون بتأثير الأشياء بعضها في بعض وإيجادها إيّاها، وسَمَّوا المؤثِّر طبيعة، وقال المعتزلة بنحو ذلك في الحيوانات والمتولّدات، وأنّ قدرتهم مؤثّرة فيها بالإيجاد، وأنّهم خالقون لأفعالهم مستقلّون باختراعها.
واستند الطّائفتان إلى المشاهدة الحسّية، ونسبوا من أنكر ذلك إلى إنكار البديهة، وغلط من قال ذلك منهم غلطا فاحشا.. "اهـ.
فالحاصل: أنّ العدوى لا تثبت بنفسها ولكن بإذن الله عزّ وجلّ، وإنّما أمر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم باجتناب المجذوم أخذا بأسباب الخلاص والنّجاة.
المبحث الثّالث معنى الطّيرة.
الطّيرة هي التّشاؤم، والتطيّر: هو أن يردّه عن عمله أمرٌ من الأمور التي يراها، كلباس معيّن، أو رؤيته لشخص معيّن.
واختلفوا في أصل اشتقاقها على قولين:
القول الأوّل: أنّها من " التّطاير " وهو التفرّق والذّهاب، ولمّا كان قدر المرء قد فرّقه الله على العباد بعلم كامل وحكمة بالغة، أطلقت العرب على الحظّ من القدر " طائرا ".
قال أبو عبيد: الطّائر عند العرب: الحظّ، وهو الّذي تسمّيه العرب البخت.
وقال الفرّاء: الطّائر معناه عندهم العمل، وطائر الإنسان عمله الذي قلّده، وحظّه من الخير والشر، وفي حديث أمّ العلاء الأنصاريّة:" اقتسمنا المهاجرين، فطار لنا عثمان بن مظعون "، أي: حصل نصيبنا منهم عثمان؛ فطائر الإنسان: ما حصل له في علم الله مما قدّر له.
ومنه قوله عزّ وجلّ:{وَكُلَّ إِنْسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ}، قيل: حظّه، وقيل: عمله.
القول الثّاني: إنّما قيل للحظّ من الخير والشرّ ( طائر ) لأنّ العرب كان من شأنهم عيافة الطّير وزجرها، فإذا أخذت ذات اليسار تشاءموا، وإذا أخذت ذات اليمين تفاءلوا.
وكانوا يقولون: جرى له الطّائر بكذا من الشرّ على طريق الفأل والطّيرة على مذهبهم في تسمية الشيء بما كان له سببا، فخاطبهم الله بما يستعملون، وأعلمهم أنّ ذلك الأمر الّذي يسمونه بالطائر يلزمهم.
وإنّ الطّيرة لذلك من الشّرك؛ لما رواه الإمام أحمد عن عبد اللهِ بنِ عمْرٍو رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( مَنْ رَدَّتْهُ الطِّيَرَةُ مِنْ حَاجَةٍ فَقَدْ أَشْرَكَ )) قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! مَا كَفَّارَةُ ذَلِكَ ؟ قَالَ: (( أَنْ يَقُولَ أَحَدُهُمْ: اللَّهُمَّ لَا خَيْرَ إِلَّا خَيْرُكَ، وَلَا طَيْرَ إِلَّا طَيْرُكَ، وَلَا إِلَهَ غَيْرُكَ )).
المبحث الرّابع: معنى قوله: ( ولا هامة ).
قال الإمام النّووي رحمه الله:
" قال الجزري في" النّهاية ": اسم طائر، وهو المراد في الحديث, وذلك أنّهم كانوا يتشاءمون بها، وهي من طير اللّيل، وقيل هي البومة.
وقيل: كانت العرب تزعم أنّ روح القتيل الّذي لا يدرك بثأره تصير هامة فتقول: اسقوني، فإذا أدرك بثأره طارت.
وقيل: كانوا يزعمون أنّ عظام الميّت - وقيل روحه - تصير هامة، فتطير ويسمّونه الصّدى, فنفاه الإسلام ونهاهم عنه " اهـ.
والله أعلم، وأعزّ وأكرم.