وصدق رحمه الله تعالى، وكأنّه استنبط ذلك من الحديث الّذي رواه التّرمذي بسند حسن عن أبي هريرة رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( الدُّنْيَا مَلْعُونَةٌ، مَلْعُونٌ ما فِيهَا، إلاَّ ذِكرَ الله تَعَالى، وَمَا والاهُ، وَعَالِماً، أوْ مُتَعَلماً )).
وقد قرّر أهل الحكمة والحلم، أنّه لا يُنال السّؤدد ولا العزّ إلاّ بالعلم، لذلك رفع الله قدر الأنبياء والعلماء، فكانوا في درجاتٍ ما بينها كما بين الأرض والسّماء، فمن أخذوا علمهم ورثوا ما عندهم، ومن أحبّوهم رُضِخَ لهم، إلاّ من آذاهم وجعل عرضهم فيئا، فـ: (( لَا يَرِثُ الْقَاتِلُ شَيْئًا )).. فمحبّ أهل العلم مرحوم محبوب، ومبغضهم محروم محجوب.
وكيف لا يحبُّ المسلم من أحبّه الحوت في البحر، والنّملة في الجحر حتّى استغفروا له ؟! قال صلّى الله عليه وسلّم: (( وَإِنَّ الْعَالِمَ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ، وَالْحِيتَانُ فِي جَوْفِ الْمَاءِ )) [رواه أبو داود والتّرمذي].
2-توقيرهم واحترامهم:
فما فضّل الله تعالى آدم عليه السّلام على ملائكته الكرام، إلاّ بالعلم، قال عزّ وجلّ:{وَعَلّمَ آدَمَ الأَسمَاءَ كُلَّهَا ثُمَّ عَرَضَهُم عَلَى المَلاَئِكَةِ فَقَالَ أَنبِئُونِي بِأَسمَاءِ هَؤُلاَءِ إِن كُنتُم صَادِقِينَ}، فلمّا عجزت الملائكة، نادى الله تعالى آدم نداء تعظيم وتشريف:{قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئهُم بِأَسمَائِهِم}، فكان جزاء العلم أن قال الله عزّ وجلّ:{وَإِذ قُلنَا لِلمَلاَئِكَةِ اسجُدُوا لآدَمَ فَسَجَدُوا}، فوالله ما كانت خيبة إبليس إلاّ من تركه لهذا الأدب، فكان من الملعونين إلى أبد الآبدين.
وقد روى الإمام أحمد والحاكم عن عبادة بن الصّامت رضي الله عنه أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ )).
- ولقد صحّ أنّ زيد بن ثابت رضي الله عنه صلّى على جنازة - وكان حاملا للقرآن -، فرآه ابن عبّاس رضي الله عنهما يريد بغلته، فسارع إليها، وأمسك بالرّكاب ليُعين زيدا على الرّكوب ! فاستحى زيدٌ من تواضع ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم - وهو أعلم الصّحابة بكتاب الله -، فقال زيد: " خلّ عنك يا ابن عمّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم". فقال ابن عبّاس:" هكذا يُفعل بالفقهاء والعلماء ". فقال زيد:" أخرج يدك !"، فأخرجها فقبّلها زيد، وقال:" هكذا أمرنا أن نفعل بأهل بيت نبيّنا ".
- وكان الشّافعي رحمه الله يقول: لقد كنت أصفح الورق صفحا رقيقا لطيفا ومالكٌ بين يديّ؛ خشية أن يسمع وَقْعَه !
وكان رحمه الله لكثرة تواضعه للعلماء يُلام، فيقول:
( أهين لهم نفسي فيُكرمونها *** فلن تُكرم النّفس التي لا تهينها )
- ولصدقه في ذلك رحمه الله، سخّر الله له أمّة بأكملها تُجلّه وتُعظّمه، وتعرف له قدره، حتّى قال الرّبيع بن سليمان المرادي: والله ما اجترأت أن أشرب الماء، والشّافعي ينظر، هيبة له. ["الآداب الشّرعيّة " لابن مفلح (1/226)].
- وهذا إمام الدّنيا الإمام أحمد بن حنبل رحمه الله: كان أدبه مع شيوخه فوق الوصف، يذكر الذّهبي رحمه الله عن أحمد بن سعيد الرّباطي قال: سمعت أحمد بن حنبل يقول:" أخذنا هذا العلم بالذلّ، فلا ندفعه إلاّ بالذّلّ " [" السّير " (11/231)].
وقال رحمه الله:" لزمت هشيما أربع سنين أو خمسا، ما سألته عن شيء إلاّ مرّتين، هيبةً له " [" السّير " (8/290)].
وقال قتيبة بن سعيد:" قدمت بغداد وما كانت لي همّة إلاّ أن ألقى أحمد بن حنبل، فإذا هو قد جاءني مع يحيى بن معين فتذاكرنا، فقام أحمد بن حنبل وجلس بين يديّ وقال:أَمْلِ عليّ، فقلت:اجلس مكانك. فقال:لا تشتغل بي، إنّما أريد أن آخذ العلم على وجهه " [" مناقب الإمام أحمد " (ص82-83)].
وقال خلف بن الوليد: جاءني أحمد بن حنبل يسمع حديث أبي عوانة، فاجتهدت أن أرفعه فأبى، وقال:لا أجلس إلاّ بين يديك، أُمِرنا أن نتواضع لمن نتعلّم منه " [" الجامع لأخلاق الراوي وآداب السّامع " ص (474)].
- وهذا الإمام مسلم رحمه الله: يقول محمد بن حمدون بن رستم: دخل مسلم على البخاري، فقال: دعني أقبّل رجليك يا أستاذ الأستاذين، ويا سيّد المحدّثين، ويا طبيب الحديث في علله ".
- ودخل شيخ الإسلام أبو إسحاق إبراهيم الحربيّ، فبادر محمّد بن يوسف القاضي إلى نعله، فأخذهما فمسحهما من الغبار، فدعا له وقال: أعزّك الله في الدّنيا والآخرة. فلمّا توفّي محمّد بن يوسف، رُئِيَ في المنام، فقيل له: ما فعل الله بك ؟ فقال: أعزّني الله في الدّنيا والآخرة بدعوة الرّجل الصّالح.
هذه صور مشرقة، وصفحات رائقة من صفحات سلف هذه الأمّة، وكيف كانوا يعظّمون ويوقّرون العلماء، وذلك ما زادهم إلاّ عزّا وتوفيقا، قال عبد الله بن المعتز رحمه الله:" المتواضع في طلاّب العلم أكثرهم علماً، كما أنّ المكان المنخفض أكثر البقاع ماء ".
ذلك، لأنّهم امتثلوا قول الله تعالى:{وَأْتُوا البُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا}، وأوّل باب تحصيل العلم هو توقير العلماء كما يوقّر الآباء.
روى الحافظ ابن عبد البرّ عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال:" ذللت طالبا، فعززت مطلوبا " [" جامع بيان العلم " (231)].
3- ذكرهم بالجميل:
سواء مع الأموات منهم رحمهم الله، ومع الأحياء، وسواء طلب على أيديهم العلم أم لم يطلبه عليهم.
قال الإمام الطّحاوي رحمه الله تعالى وهو يبيّن عقيدة السّلف الصّالح رحمة الله عليهم أجمعين:" وعلماء السّلف من السّابقين، ومن بعدهم من التّابعين، أهل الخير والأثر، وأهل الفقه والنّظر، لا يُذكرون إلاّ بالجميل، ومن ذكرهم بسوء فهو على غير سبيل ". أي ضلّ عن سبيل المؤمنين الذي أوعد الله تعالى الحائد عنه قائلا:{نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيراً}.
فينبغي للمسلمين عامّة، وطلاّب العلم خاصّة، أن يحفظوا هذا الحقّ لهم، وإذا ذكروهم في مجالسهم أن يذكروهم بالجميل، لأنّه إذا كان حفظُ عرض المسلم الّذي هو من عامّة المسلمين فريضةً ينبغي حفظها، فكيف بالعلماء ؟!
وبمجرّد ما تحسّ من جليسك أنّه يريد أن ينتقص عالما، ففِرّ بدينك قبل أن يسلبك شيئا من حسناتك، وانج بنفسك لأنّه قد أعلن الحرب على نفسه: (( مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالحَرْبِ )).
وإذا لم يَغَرْ المسلم لله على العلماء، فعلى من يغار ؟! فهم صفوة الله وأحبّاؤه، وخيرة خلقه وأولياؤه.
4- ذكرهم بالإجلال والتّعظيم:
فتذكره بالعلم، والإمامة، وتشرّفه وتكرّمه، تقول:" قال الإمام رحمه الله، وقال الشّيخ، وتميّزه عند ذكره عن عامّة النّاس بهذه الألقاب، فإنّ الله أدّب أصحاب النبيّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:{لاَ تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً}، والعلماء ورثة الأنبياء، فلا يقال: قال فلان وفلان ... يذكره باسمه مجرّدا !
5- الاعتناء بردّ الجميل لهم:
فمن نحن لولا الله عزّ وجلّ، ثمّ عِلْمُ هؤلاء العلماء ؟!
من نحن لولا الله تعالى، ثمّ هؤلاء الأئمّة الّذين فسّروا لنا كتاب الله، وبيّنوا لنا أحاديث رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟
وقفوا عند كلّ كلمة من كتاب الله، وسنّة نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم، فبيّنوا حلالها وحرامها، وأوضحوا ناسخها ومنسوخها، وفصّلوا حدودها ومحارمها، فرحمة الله عليهم أحياء وأمواتا، ونسأل الله ربّ العرش الكريم أن يُسبغ عليهم شآبيب الرّحمات، وأن يوجب لهم علوّ الدّرجات، وأن يجمعنا بهم في رياض الجنّات.
فينبغي للمسلم إذا قرأ كتابا، أو استمع إلى كلام عالم أن يترحّم عليه ويدعو له، لأنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( مَنْ صَنَعَ لَكُمْ مَعْرُوفاً فَكَافِئُوهُ، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِيعُوا فَادْعُوا لَهُ )) [رواه أبو داود عن ابن عمر رضي الله عنهما].
تمرّ عليك المسألة في الأحكام، ويمرّ عليك حديث من أحاديث المصطفى عليه الصّلاة والسّلام، لا تدري أهو صحيح أم ضعيف ؟! ثمّ لا تدري ما المراد منه ؟! أهو عامّ أم خاصّ !؟ أهو مطلق أم مقيّد ؟! فإذا وقفت أمام كلام العالم، أدركت حقيقة المراد، فما تملك إذا اطّلعت على هذا الخير إلاّ أن تقول: رحمة الله على فلان !
6- نشر فضلهم بين الأحياء:
وهذا من أوكد حقوق لعلماء، لأنّ فيه ربطا للنّاس بعلمائهم، وتعريفا لهم بأمجادهم، وهذا له صور متعدّدة:
أ) مطالعة سيرهم، ونشأتهم، ومعرفة مؤلّفاتهم، ورحلاتهم في طلب العلم، حتّى إنّ بعض المشايخ كان يذكر لنا دائما أنّ من الأمور الّتي ينبغي لطالب العلم معرفتها والاعتناء بها: تاريخ ولادتهم ووفاتهم.
وهذا الأدب أصبح اليوم آكد من أيّ وقت آخر، في زمن عُظّم فيه السّفهاء والماجنون، والبلهاء واللاّعبون.
ب) نسبة العلم إليهم: فإذا قرأت فائدة، أو نقلت علما نبّه عليه إمام من أئمة الدّين، كان من الحقّ له عليك أن تُنوّه بفضله في ذلك، فتقول: كما قرّره شيخ الإسلام فلان، وكما بيّنه الحافظ فلان، ولا توهم النّاس أنّ الفضل - بعد الله – لك وحدك ! وإنّما عليك أن تُنصفهم، وتذكر مآثرهم، وتبيّن فضلهم.
هذا ما يعرّف النّاس قدر العلماء، ويجعلهم يدركون فضلهم، ويغارون عليهم من أن يُنتقص قدرهم، وأن تهان مكانتهم.
ومن حقوقهم: الاعتذار لهم في الأخطاء.
وهذا ما سوف نراه إن شاء الله تعالى لاحقا.