وبقدر ما يتدبّر العبد سعة رحمة الله ويستحضرها في كلّ حركة من حركاته، فإنّه يزداد حبّا لربّه تعالى؛ لأنّ النّفوس جُبلت على حبّ من أحسن إليها، وتعظيم من تفضّل عليها، فكيف بمن أمر بالإحسان، وجاد على أهل الإحسان، وكان هو مصدر كلّ إحسان ؟
وما يدلّ على سعة رحمة الله تعالى آياتُه الشّرعيّة، وآياتُه الكونيّة.
فمن النّصوص في ذلك – وهي كثيرة جدّا -:
* ما يدلّ على أنّ رحمته شملت كلّ شيء:
قال تعالى:{وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ فَسَأَكْتُبُهَا لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ} [الأعراف:156]، وقال عزّ وجلّ إخبارا عن حملة العرش:{رَبَّنَا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْءٍ رَحْمَةً وَعِلْمًا} [غافر: 40]، أي: رحمته شملت كلّ شيء في العالم العلويّ والسّفليّ، البرّ والفاجر، المسلم والكافر.
* وأنّه تعالى أرحم الرّاحمين:
وبذلك استغاث ودعا الأنبياء، قال تعالى عن موسى عليه السّلام:{قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ} [الأعراف:151]، وقال عن يعقوب عليه السّلام:{فَاللَّهُ خَيْرٌ حَافِظًا وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64)} [يوسف]، وعن يوسف عليه السّلام:{قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)} [يوسف]، وهذا أيّوب عليه السّلام:{إِذْ نَادَى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83)} [الأنبياء]، وبذلك أمر نبيّه وأفضل خلقه محمّدا صلّى الله عليه وسلّم فقال:{وَقُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَارْحَمْ وَأَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)} [المؤمنون].
فمهما أحبَبْتَ المخلوق لرحمته بالخلق، ورأفته بالضّعفاء، فالله جلّ جلاله أرحم من جميع الخلق مجتمعين.
* أنّ رحمته تعالى تغلب غضبه:
ففي الصّحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( لَمَّا قَضَى اللَّهُ الْخَلْقَ كَتَبَ فِي كِتَابِهِ فَهُوَ عِنْدَهُ فَوْقَ الْعَرْشِ: إِنَّ رَحْمَتِي غَلَبَتْ غَضَبِي ))، وهذا معنى قوله تعالى:{كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ} فهو أوجبها على نفسه: أن تسبق رحمتُه غضبه، وفضلُه عدلَه، وعفوُه انتقامَه، ومغفرتُه عقابَه.
- ولا بدّ أن نتأمّل جيّدا كيف ربط الله تعالى هنا بين العرش وصفة الرّحمة، لتدرك سرّ ارتباطهما في قوله:{الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى (5)} [طه]؛ ذلك أنّ العرش هو أوسع وأكبر مخلوقاته، والرّحمة أوسع وأعظم صفاته، فلمّا استوى على العرش الّذي وسع كلّ المخلوقات بصفته الّتي وسعت كلّ شيء، كتب هذا الكتاب، وقضى أن تغلِب رحمته غضبه، وعفوه عقوبته.
[انظر:"مدارج السّالكين" (1/33)].
وفي هذا المعنى قال تعالى:{نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَأَنَّ عَذَابِي هُوَ الْعَذَابُ الْأَلِيمُ (50)} [الحجر]، فإنّه ذكر في جانب الرّحمة والمغفرة الاسم الدالّ على أنّه هذا شأنه وديدنه، فهو تسمّى بالغفور الرّحيم، ولم يتسمّ بالمعذّب ولا المعاقب.
- ومن مظاهر سَبْقِ رحمة الله عزّ وجلّ لغضبه، ما ذكره جلّ جلاله في كتابه:{مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (160)} [الأنعام].
جاء في الصّحيحين عن ابنِ عبّاسٍ رضي الله عنه عن النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فيمَا يروِي عن ربّه عزّ وجلّ قال: (( إِنَّ اللَّهَ كَتَبَ الْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ، ثُمَّ بَيَّنَ ذَلِكَ، فَمَنْ هَمَّ بِحَسَنَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ عَشْرَ حَسَنَاتٍ إِلَى سَبْعِ مِائَةِ ضِعْفٍ، إِلَى أَضْعَافٍ كَثِيرَةٍ، وَمَنْ هَمَّ بِسَيِّئَةٍ فَلَمْ يَعْمَلْهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ عِنْدَهُ حَسَنَةً كَامِلَةً، فَإِنْ هُوَ هَمَّ بِهَا فَعَمِلَهَا كَتَبَهَا اللَّهُ لَهُ سَيِّئَةً وَاحِدَةً )).
* ما يدّخره الله من الرّحمة لعباده يوم القيامة:
ففي الصّحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم يقول: (( إِنَّ اللَّهَ خَلَقَ الرَّحْمَةَ يَوْمَ خَلَقَهَا مِائَةَ رَحْمَةٍ، فَأَمْسَكَ عِنْدَهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً، وَأَرْسَلَ فِي خَلْقِهِ كُلِّهِمْ رَحْمَةً وَاحِدَةً )).
وفي رواية لمسلم: (( إِنَّ لِلَّهِ مِائَةَ رَحْمَةٍ، أَنْزَلَ مِنْهَا رَحْمَةً وَاحِدَةً بَيْنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالْبَهَائِمِ وَالْهَوَامِّ، فَبِهَا يَتَعَاطَفُونَ، وَبِهَا يَتَرَاحَمُونَ، وَبِهَا تَعْطِفُ الْوَحْشُ عَلَى وَلَدِهَا، وَأَخَّرَ اللَّهُ تِسْعًا وَتِسْعِينَ رَحْمَةً يَرْحَمُ بِهَا عِبَادَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ )).
* وأنّ اللّه أرحم بعباده من الأمّ بولدها:
ففي الصّحيحين عن عمرَ بنِ الخطّابِ رضي الله عنه قال: قَدِمَ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم سَبْيٌ، فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ السَّبْيِ وَجَدَتْ صَبِيًّا فِي السَّبْيِ أَخَذَتْهُ فَأَلْصَقَتْهُ بِبَطْنِهَا وَأَرْضَعَتْهُ، فَقَالَ لَنَا النَّبِيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( أَتُرَوْنَ هَذِهِ طَارِحَةً وَلَدَهَا فِي النَّارِ ؟)) قُلْنَا: لَا وَهِيَ تَقْدِرُ عَلَى أَنْ لَا تَطْرَحَهُ، فَقَالَ: (( لَلَّهُ أَرْحَمُ بِعِبَادِهِ مِنْ هَذِهِ بِوَلَدِهَا )).
* ومن آياته الكونيّة الدالّة على سعة رحمة الله عزّ وجلّ:
تأمّل خلق الله جلّ جلاله: كيف تعرّف إلى عباده بخلقه لا ليعترفوا بربوبيّته ويقرّوا بألوهيّته فحسب، ولكن ليعلموا أنّ لهم ربّا رحيما، برّا كريما ..
قال ابن القيّم رحمه الله -كما في " الصّواعق المرسلة"-بتصرّف-:
" إنّ ظهور هذه الصّفة في الوجود كظهور أثر الرّبوبيّة والملك والقدرة، فإنّ ما لله على خلقه من الإحسان والإنعام شاهدٌ برحمة تامّة وسِعت كلّ شيء ... فمن علم عن ربّه كلّ ذلك، لم يسعه إلاّ أن يسجد لله سجدة لا يرفع منها رأسه أبدا "اهـ.
- الثّمرة الثّانية: رجاء المغفرة والعفو:
فالواجب على المسلم دوما أن يعيش بين الخوف والرّجاء، ولا ينبغي له أن يترك أحد الأمرين يغلب الآخر، فإذا رأى من نفسه كبرا وغرورا، وميلا إلى الشّهوات، وجب عليه أن يتذكّر أنّ الله شديد العقاب، وأنّه ربّما أمهله وأملى له لا سترا عليه ولا محبّة له، وإنّما استدراجا له ليأخذه وهو على تلك الخال.
فإذا وقع في الذّنب، فقد أمِر أن يكون من التّائبين المستغفرين، لا أن يكون من القانطين الآيسين من رحمة ربّ العالمين، فقد قال تعالى حكاية عن نبيّه يعقوب عليه السّلام:{وَلَا تَيْئَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْئَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ (87)} [يوسف].
وممّا يدلّ على تعظيم الله تعالى لسعة رحمته وعفوه: تتمّة حديث أبي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه في الصّحيحين في ذكر أنّ الرّحمة مائة، قال صلّى الله عليه وسلّم:
(( فَلَوْ يَعْلَمُ الْكَافِرُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الرَّحْمَةِ لَمْ يَيْئَسْ مِنْ الْجَنَّةِ، وَلَوْ يَعْلَمُ الْمُؤْمِنُ بِكُلِّ الَّذِي عِنْدَ اللَّهِ مِنْ الْعَذَابِ لَمْ يَأْمَنْ مِنْ النَّارِ )).
- الثّمرة الثّالثة: تعظيم التألّي على الله عزّ وجلّ:
فقد روى مسلم عَنْ جُنْدَبٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم حَدَّثَ: (( أَنَّ رَجُلًا قَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لِفُلَانٍ ! وَإِنَّ اللَّهَ تَعَالَى قَالَ: مَنْ ذَا الَّذِي يَتَأَلَّى عَلَيَّ أَنْ لَا أَغْفِرَ لِفُلَانٍ ؟ فَإِنِّي قَدْ غَفَرْتُ لِفُلَانٍ، وَأَحْبَطْتُ عَمَلَكَ )).
وفي رواية لأبي داود عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم يَقُولُ:
(( كَانَ رَجُلَانِ فِي بَنِي إِسْرَائِيلَ مُتَوَاخِيَيْنِ، فَكَانَ أَحَدُهُمَا يُذْنِبُ وَالْآخَرُ مُجْتَهِدٌ فِي الْعِبَادَةِ، فَكَانَ لَا يَزَالُ الْمُجْتَهِدُ يَرَى الْآخَرَ عَلَى الذَّنْبِ، فَيَقُولُ: أَقْصِرْ ! فَوَجَدَهُ يَوْمًا عَلَى ذَنْبٍ، فَقَالَ لَهُ: أَقْصِرْ ! فَقَالَ: خَلِّنِي وَرَبِّي، أَبُعِثْتَ عَلَيَّ رَقِيبًا ؟! فَقَالَ: وَاللَّهِ لَا يَغْفِرُ اللَّهُ لَكَ، أَوْ لَا يُدْخِلُكَ اللَّهُ الْجَنَّةَ. فَقَبَضَ أَرْوَاحَهُمَا، فَاجْتَمَعَا عِنْدَ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فَقَالَ لِهَذَا الْمُجْتَهِدِ: أَكُنْتَ بِي عَالِمًا أَوْ كُنْتَ عَلَى مَا فِي يَدِي قَادِرًا ؟ وَقَالَ لِلْمُذْنِبِ: اذْهَبْ فَادْخُلْ الْجَنَّةَ بِرَحْمَتِي، وَقَالَ لِلْآخَرِ: اذْهَبُوا بِهِ إِلَى النَّارِ )).
- الثّمرة الرّابعة: حسن الظنّ بالله عزّ وجلّ.
وحسن الظنّ بالله من أعظم منازل السّائرين، وأشرف مقامات العابدين، لأنّه دليل على أنّه يعرف الله حقّ المعرفة، ولقد روى البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم:
(( إِنَّ اللَّهَ يَقُولُ: أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي، وَأَنَا مَعَهُ إِذَا دَعَانِي )).
ومعنى قوله عزّ وجلّ: (أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِي بِي ) أي: قادر على أن أعمل به ما ظنّ أنّي عامل به، وفيه بيان فضل الرّجاء في رحمة الله.
ويتأكّد حسن الظنّ بالله في موطنين:
1- عند الدّعاء، فقد روى التّرمذي عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسول اللهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( ادْعُوا اللَّهَ وَأَنْتُمْ مُوقِنُونَ بِالْإِجَابَةِ، وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ لَا يَسْتَجِيبُ دُعَاءً مِنْ قَلْبٍ غَافِلٍ لَاهٍ )).
ولذلك جاء الأمر باليقين والعبد يسأل الله الرّحمة والمغفرة، ففي الصّحيحين عن أبي هريرةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِي إِنْ شِئْتَ ! اللَّهُمَّ ارْحَمْنِي إِنْ شِئْتَ ! لِيَعْزِمْ الْمَسْأَلَةَ، فَإِنَّهُ لَا مُكْرِهَ لَهُ )).
2- عند الاحتضار، فقد روى مسلم عن جابرٍ رضي الله عنه قال: سمعتُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلّم قَبْلَ وَفَاتِهِ بِثَلَاثٍ يَقُولُ:
(( لَا يَمُوتَنَّ أَحَدُكُمْ إِلَّا وَهُوَ يُحْسِنُ بِاللَّهِ الظَّنَّ ))؛ ذلك لأنّ الشّيطان يأتي ابن آدم وهو في سكرات الموت فيذكّره ذنوبه وسيّئاته حتّى يموت ابن آدم وهو قانط من رحمة الله.
ومن طالع أحوال السّلف عند الاحتضار رآهم على أتمّ حال في هذا المقام.
[يتبع إن شاء الله].