وقد علّمنا الله عزّ وجلّ ذلك فقال:{وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُلْ رَبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا} [الإسراء: 24].
وقال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا مَاتَ الْإِنْسَانُ انْقَطَعَ عَنْهُ عَمَلُهُ إِلَّا مِنْ ثَلَاثَةٍ: إِلَّا مِنْ صَدَقَةٍ جَارِيَةٍ، أَوْ عِلْمٍ يُنْتَفَعُ بِهِ، أَوْ وَلَدٍ صَالِحٍ يَدْعُو لَهُ )) [رواه مسلم].
وروى الإمام أحمد وابن ماجه عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: (( إِنَّ الرَّجُلَ لَتُرْفَعُ دَرَجَتُهُ فِي الْجَنَّةِ فَيَقُولُ: أَنَّى هَذَا ؟! فَيُقَالُ: بِاسْتِغْفَارِ وَلَدِكَ لَكَ ))..
وروى الإمام مالك رحمه الله أَنَّ سَعِيدَ ابْنَ الْمُسَيَّبِ كَانَ يَقُولُ:" إِنَّ الرَّجُلَ لَيُرْفَعُ بِدُعَاءِ وَلَدِهِ مِنْ بَعْدِهِ - وَقَالَ بِيَدَيْهِ نَحْوَ السَّمَاءِ، فَرَفَعَهُمَا-".
وكان أبو حنيفة رحمه الله تعالى بارّا بوالديه، وكان يدعو لهما ويستغفر لهما مع شيخه حمّاد، ويتصدّق عن كلّ شهر دينارا عن والديه.
وهذا أبو يوسف القاضي: كان يقول عقب كلّ صلاة:" اللهمّ اغفر لأبوَيّ، ولأبي حنيفة " [" برّ الوالدين " للطّرطوشي (ص 77)].
رابعا: تعظيمهما وتعظيم أمرهما في غير معصية الله عزّ وجلّ.
هذا نبيّ الله إسماعيل عليه السّلام الأنموذج العالي في برّ الوالدين، قال تعالى:{فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ} [الصافّات:102].
يقول:{يَا أَبَتِ} ! وشبح السّكين لا يزعجه ولا يُفزعه، بل لا يُفقده أدبه ومودّته !
فما كان جزاءُ الطّاعة إلاّ أن قال الله عزّ وجلّ:{وَفَدَيْنَاهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ}.
فطاعتهما في غير معصية، لا يأتي من وراءها إلاّ الخير كلّه، كما أنّ عصيان أمرهما لا يأتي إلاّ بالشرّ كلّه، ولا ينبّئك مثل جريج العابد:
فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلّى الله عليه وسلّم قال: (( لَمْ يَتكَلَّمْ في المَهْدِ إلاَّ ثَلاثَةٌ: عِيسى ابْنُ مَرْيَمَ، وَصَاحِب جُرَيْج:
وَكَانَ جُرَيْجٌ رَجُلاً عَابِداً، فَاتَّخَذَ صَوْمَعَةً فَكَان فِيهَا، فَأَتَتْهُ أُمُّهُ وَهُوَ يُصَلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ.
فقال: يَا رَبِّ، أُمَي وَصَلاتِي ؟! فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ، فَانْصَرَفَتْ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، أَتَتْهُ وَهُوَ يُصَلَي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فقال: أَيْ رَبِّ، أُمِّي وَصَلاتِي ؟! فَأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ.
فَلَمَّا كَانَ مِنَ الْغَدِ، أَتَتْهُ وَهُوَ يُصلِّي، فَقَالَتْ: يَا جُرَيْجُ، فقال: أَيْ رَبِّ، أُمِّي وَصَلاتِي ؟! فأَقْبَلَ عَلَى صَلاتِهِ.
فَقَالَت: اللَّهُمَ لا تُمِتْهُ حَتَّى ينْظُرَ إلَى وُجُوهِ المُومِسَاتِ [والمُومِسات: هنّ البغايا].
فَتَذَاكَرَ بَنُو إسْرَائِيلِ جُرِيجاً وَعِبَادَتَهُ، وَكَانَتِ امْرَأَةٌ بَغِيٌّ يُتَمَثَّلُ بِحُسْنِهَا، فَقَالَتْ: إنْ شِئْتُمْ لأَفْتِنَنَّهُ، فَتَعَرَّضَتْ لَهُ، فَلَمْ يَلْتَفِتْ إلَيْهَا.
فَأَتَتْ رَاعِياً كَانَ يَأْوي إلَى صَوْمَعَتِهِ، فَأَمْكَنَتْهُ مِنْ نَفْسِهَا فَوَقَعَ عَلَيْهَا. فَحَمَلَتْ، فَلَمَّا وَلَدَتْ قَالَتْ: هُوَ مِنْ جُرَيْجٍ !
فَأَتَوْهُ، فَاسْتَنْزَلُوهُ، وَهَدَمُوا صَوْمَعَتَهُ ! وَجَعَلُوا يَضْرِبُونَهُ ! فقال: مَا شَأنكُمْ ؟ قالوا: زَنَيْتَ بِهذِهِ الْبَغِيِّ فَوَلَدَتْ مِنكَ.
قال: أَيْنَ الصَّبِيُّ ؟ فَجَاءوا بِهِ، فقال: دَعُوني حَتَّى أُصَلّيَ، فَصَلَّى، فَلَمَّا انْصَرَفَ أَتَى الصَّبيَّ فَطَعَنَ فِي بَطْنِهِ وَقالَ: يَا غُلامُ مَنْ أَبُوكَ ؟ قال: فُلانٌ الرَّاعِي.
فَأَقْبَلُوا عَلَى جُرَيْجٍ يُقَبِّلُونَهُ، وَيَتَمَسَّحُونَ بِهِ، وَقَالُوا: نَبْنِي لَكَ صَوْمَعَتَكَ مِن ذَهَبِ، قال: لا، أَعِيدُوهَا مِنْ طِينٍ كَمَا كَانَتْ، فَفَعَلُوا ...)).
فإنّ جريجاً كان في أشرف المقامات، وأعظم الطّاعات، وهي التقرّب إلى الله عزّ وجلّ بالصّلاة والمناجاة، ومع ذلك لم يَحُل ذلك كلّه بينه وبين البلاء الّذي نزل من السّماء بسبب عدم إجابته نداء أمّه !
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله:" وفي الحديث أيضا عِظَمُ بِرّ الوالدين، وإجابة دعائهما، ولو كان الولد معذورا .."اهـ.
فكيف بمن ترك إجابة أمرهما من غير عذر ؟!
- ومن الأعلام في هذا الباب: هشام بن حسّان رحمه الله.
فمن ذا الّذي يجهل منزلة الحجّ من الدّين، ومكانتها عند ربّ العالمين ؟
وها هو هشام بن حسّان رحمه الله يعزم على حجّ بيت الله الحرام، ولكن يقضي الله ما يشاء، ويحدث له ما يثنيه عن عزمه، فما الّذي منعه من حجّته تلك ؟
يقول الفلاّس رحمه الله: كان هشام بن حسّان من العابدين، أحضرْتُ إلى بابه الجملَ والزّادَ والسّفرة ليحجّ، فشقّ على أمّه، وأخذها شبه الرّعدة، فترك الحجّ من أجلها، فلمّا توفّيت، كان لا يدع الحجّ.
- وصورة أخرى من صور البرّ بالأمّ خاصّة: ما حدث للإمام ابن عساكر رحمه الله، الّذي كان كغيره من العلماء والمحدّثين يرحل في طلب العلم وينشط لجمعه من مصادره ولو نَأَت به البلاد، وفارق لأجلها المال والأولاد:
وكانت أصبهانُ حاضرةً من حواضر العلم في عصره، وكان السّفر إليها سبيلا للاستزادة من العلوم، ولكنّ الإمام مع كلّ هذا تأخّر في السّفر إليها، فما سبب ذلك التأخّر ؟
لقد سئل الإمام ابن عساكر رحمه الله عن ذلك فأجاب بصراحة ووضوح: لم تَأْذَنْ لِي أمّي !
وهذا الجواب يعُدُّه كثير من شبابنا هذه الأيّام من خوارم الرّجولة ! وقوادح الفحولة ! ويخشى أن يُعيّر بذلك ! ولكن أين ذكرهم وذكر ابن عساكر رحمه الله ؟
- ومن الأبناء من ترك الطّعام مع والدته حتّى ظنّ بعض النّاس أنّ ذلك معارض لحقّ البرّ بها: فقد قيل لعليّ بن الحسين رحمه الله: أنت من أبرّ النّاس، ولا نراك تؤاكل أمّك !؟ فبادرهم بجواب لا يقوله إلا بارّ، قال: أخاف أن تسير يديّ إلى ما سبقت عينُها إليه، فأكون قد عققتها !
- ومن مظاهر تعظيمهما ألاّ ترفع صوتك على صوتيهما، أو بحضرتهما:
قال محمّد بن محيريز رحمه الله:" من مشى بين يدي أبيه فقد عقّه، إلاّ أن يمشي فيُميط عن طريقه الأذى، ومن دعا أباه باسمه فقد عقّه، إلاّ أن يقول يا أبت ".[" التّبصرة " لابن الجوزيّ (1/160)].
وذكر الذّهبيّ رحمه الله عن أبي بكر [وهو ابن عيّاش] قال: كنت مع منصور بن المعتمر جالسا في منزله، فصاحت به أمّه - وكانت فظّةً عليه - فتقول:" يا منصور، يريدك ابن هُبيرة على القضاء فتأبى !" وهو واضع لحيته على صدره ما يرفع طرْفه إليها " [" سير أعلام النّبلاء " (5/405)].
هؤلاء رحمهم الله أدركوا ما لا يُدركه الكثيرون: أنّ الوالدين هما الوالدان وكفى .. فهما لا يريان ابنَهما إلاّ أنّه ابنُهما الّذي لا يسعه إلاّ أن يلبّي رغباتهما في أيّ وقت، وكيفما شاءا، ودون مقدّمات.
حتّى ولو كان الابن عند النّاس بأشرف المنازل من علمٍ، أو جاهٍ، أو غير ذلك.
- هذا إمامٌ من أئمّة المسلمين، كان ينزل عند رغبات أمّه مهما كانت، وهو حيوة بن شريح رحمه الله: كان يقعد في حلقته يُعلِّم النّاس، فتقول له أمّه: قُم يا حيوة، فأَلْقِ الشّعير للدّجاج. فيقوم، ويترك التّعليم.
لم يمنع هذا العالِمَ الجليلَ مجلسُه بين أهل العلم وطلبته الّذين قد أثنوا الرّكب من حوله، وقد تطلّعت إليه أعناقهم، وطافت به نظراتهم هيبة وإجلالاً له، من أن يُنفِّذ رغبة أمّه ! تلك الرّغبة قد تكون حقيرةً في نظر أكثر النّاس، أو على الأقلّ - في نظر الكثيرين - يمكن أن تؤجّل إلى حين.
ولكن هؤلاء لا ينظرون بأنظار النّاس، فبلغوا ما لم يبلغه النّاس.
- سُئل الإمام أحمد رحمه الله عن الرّجل يصوم وأبواه ينهيانه، فقال: ما يُعجبني أن يصوم إذا نهياه، ولا أحبّ أن ينهياه.
وفي رواية قال رحمه الله: روي عن الحسن أنّه قال: يُفطر، وله أجر البرّ وأجر الصّوم إذا أفطر.
وقال في رواية أخرى: إذا أمره أبواه أن لا يصلّي إلاّ المكتوبة ؟ قال: يداريهما ويُصلّي.[" الآداب الشّرعية " لابن مفلح (2/60)"].
والآن - رعاك الله وحماك - ماذا ستقول عندما تعلم أنّ كثيراً من الأبناء اليوم عندما تتعارض مصالحهم الشّخصية الدّنيوية مع رغبات والدَيْه الضّرورية؛ تجدهم يفضّلون مصالحهم التّافهة.
قال ابن القيّم رحمه الله في " مدارج السّالكين ":
" فانظر إلى الأدب مع الوالدين: كيف نجّى صاحبّه من حبس الغار حين أطبقت عليهم الصّخرة ؟ والإخلال به مع الأمّ تأويلا وإقبالا على الصّلاة كيف امتُحِن صاحبُه بهدم صومعته، وضرب النّاس له، ورميه بالفاحشة ! وتأمّل أحوال كلّ شقيّ ومغترّ ومدبر: كيف تجد قلّة الأدب هي الّتي ساقته إلى الحرمان ؟"اهـ.
صورةٌ واحدة من هذه الصّور المشرقة كافيةٌ لتذكير المسلم بعِظم حقّ الوالدين، وجليل منزلتهما، وتذكّره بما رواه النّسائيّ أنّ جَاهِمَةَ السّلَميّ رضي الله عنه جاء إلى النّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم فقال:
يا رَسُولَ اللهِ، أَرَدْتُ أَنْ أَغْزُوَ، وَقَدْ جِئْتُ أَسْتَشِيرُكَ ؟ فَقَالَ: (( هَلْ لَكَ مِنْ أُمٍّ ؟)) قَالَ: نَعَمْ. قَالَ: (( فَالْزَمْهَا، فَإِنَّ الْجَنَّةَ تَحْتَ رِجْلَيْهَا )).
فهذا الرّجل دعاه الرّسول صلّى الله عليه وسلّم إلى أن يترك هذه الشّعيرة العظيمة، ليس لشيء، إلاّ لأجل أن يبرّ بأمّه.
والله الموفّق لا ربّ سواه.