أنّه عزّ وجلّ كتب أنّه ما من سجدةٍ يسجدُها العبد له سبحانه إلاّ رفعه بها درجةً، وحطّ عنه بها خطيئةً.
وما من سجدةٍ إلاّ وهي تبكيتٌ للشّيطان الرّجيم، فقد روى مسلم والإمام أحمد عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسُولُ الله صلّى الله عليه وسلّم: (( إِذَا قَرَأَ ابْنُ آدَمَ السَّجْدَةَ فَسَجَدَ، اعْتَزَلَ الشَّيْطَانُ يَبْكِي، يَقُولُ: يَا وَيْلِي ! أُمِرَ ابْنُ آدَمَ بِالسُّجُودِ فَسَجَدَ فَلَهُ الْجَنَّةُ، وَأُمِرْتُ بِالسُّجُودِ فَأَبَيْتُ فَلِي النَّارُ )).
وقد ذهب الحنفيّة إلى وجوبها.
والصّحيح – إن شاء الله – مذهب الجمهور: أنّها سنّة وفضيلة، بدليل ما رواه البخاري عن زَيْدِ بنِ ثابِتٍ رضي الله عنه قال: قَرَأْتُ عَلَى النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم {وَالنَّجْمِ}، فَلَمْ يَسْجُدْ فِيهَا.
وروى البخاري أنّ عمرَ بنَ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَرَأَ يَوْمَ الْجُمُعَةِ عَلَى الْمِنْبَرِ بِسُورَةِ النَّحْلِ، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ نَزَلَ، فَسَجَدَ وَسَجَدَ النَّاسُ، حَتَّى إِذَا كَانَتْ الْجُمُعَةُ الْقَابِلَةُ قَرَأَ بِهَا، حَتَّى إِذَا جَاءَ السَّجْدَةَ قَالَ: يَا أَيُّهَا النَّاسُ، إِنَّا نَمُرُّ بِالسُّجُودِ فَمَنْ سَجَدَ فَقَدْ أَصَابَ، وَمَنْ لَمْ يَسْجُدْ فَلَا إِثْمَ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَسْجُدْ عُمَرُ رضي الله عنه.
وزاد ابن عمر رضي الله عنه في رواية أنّ عمر رضي الله عنه قال: ( إِنَّ اللهَ لَمْ يَفْرِضْ السُّجُودَ، إِلَّا أَنْ نَشَاءَ ).
والشّاهد: أنّه قال ذلك بحضرة جمهور الصّحابة رضي الله عنهم ولم يُنكر ذلك أحد منهم.
* الأدب الثّاني عشر: لا يقال: نسيت آية كذا.
يُكره أن يقول المسلم: نسيتُ آية كذا، وإنّما يقول: أُنْسِيتُها؛ للنّهي عن ذلك.
فقد روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رضي الله عنه قال: قال النّبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( بِئْسَ مَا لِأَحَدِهِمْ أَنْ يَقُولَ: نَسِيتُ آيَةَ كَيْتَ وَكَيْتَ، بَلْ نُسِّيَ. وَاسْتَذْكِرُوا الْقُرْآنَ، فَإِنَّهُ أَشَدُّ تَفَصِّيًا مِنْ صُدُورِ الرِّجَالِ مِنْ النَّعَمِ )).
لذلك روى الشيخان أيضا عن عائشةَ رضي الله عنها قالت: سَمِعَ رَسُولُ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم رَجُلًا يَقْرَأُ فِي سُورَةٍ بِاللَّيْلِ، فَقَالَ: (( يَرْحَمُهُ اللهُ، لَقَدْ أَذْكَرَنِي كَذَا وَكَذَا آيَةً، كُنْتُ أُنْسِيتُهَا مِنْ سُورَةِ كَذَا وَكَذَا )).
* الأدب الثّالث عشر: التريّث في الاقتباس.
الاقتباس هو:" تضمين الشّعر أو النّثر بعضَ القرآن لا على أنّه منه ".
وقد اشتهر عن المالكيّة تحريمه وتشديد النّكير على فاعله، وأمّا غيرهم فقلّ من تعرّض له من المتقدّمين، وأكثر المتأخرين، مع شيوع الاقتباس في أعصارهم واستعمال الشّعراء له.
وقد نقل الإمام السّيوطي رحمه الله عن " شرح بديعية ابن حجّة " أنّ:
الاقتباس ثلاثة أقسام: مقبول، ومباح، ومردود.
1- فالأوّل: ما كان في الخطب، والمواعظ، والعهود.
2- والثّاني: ما كان في القول، والرّسائل، والقصص.
3- والثّالث: على ضربين:
أ) أحدهما: ما نسبه الله إلى نفسه، ونعوذ بالله ممن ينقله إلى نفسه، كما قيل عن أحد بني مروان أنّه وقَّع على مطالعة فيها شكاية عمّاله:" إنّ إلينا إيابهم ثم إنّ علينا حسابهم " !
ب) والآخر: تضمين آية في معنى هزل ! ونعوذ بالله من ذلك، كقول أحدهم:
أوحى إلى عشاقه طرفـه *** هيهات هيهات لمـا توعدون
وردفـه ينطق من خلفه *** لمـثل ذا فليعمل العـاملون
قال السّيوطي رحمه الله:" وهذا التّقسيم حسن جدّا، وبه أقول ."اهـ.
ومن الأمثلة عن القسم المقبول: ما رواه البيهقي في " شعب الإيمان " (رقم 1321) عن شيخه أبي عبد الرّحمن السّلمي، قال: أنشدنا أحمد بن محمّد بن يزيد لنفسه:
سـل الله من فضله واتقه *** فإنّ التّقى خير مـا تكتسِب
ومن يتّـق الله يصنع لـه *** ويرزقه مِـن حيث لا يحتسب
ومن الأمثلة الّتي تدخل في قسم الممنوع المردود، ما شاع استعماله هذه الأيّام، على لسان الخواصّ بلْهَ العوامّ قولهم في كلّ مناسبة: لا أفعل كذا ولا هم يحزنون !!
مع أنّ هذا الوصف {وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} جاء ذكره في أشرف مقام، وهو بيان حال أهل دار السّلام.
( تنبيه ): معنى قولهم في تعريف الاقتباس: ( لا على أنّه منه ): بألاّ يقول في شعره ونثره: قال الله تعالى كذا ونحوه، فإنّه حينئذ لا يُعدّ اقتباسا.
وقد يخفى ذلك على الأجلاّء، كما ذكر الشيخ تاج الدّين بن السّبكي في " طبقاته " في ترجمة الإمام أبي منصور عبد القاهر بن الطّاهر التميمي البغدادي من كبار الشّافعية وأجلاّئهم، أنّ من شعره قوله:
يا من عدا ثم اعتدى ثم اقترف *** ثم انتهى ثم ارعوى ثم اعتـرف
أبشر بقـول الله في آيـاتـه *** إن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف
ثمّ قال رحمه الله:" استعمال مثل الأستاذ أبي منصور مثلَ هذا الاقتباس في شعره له فائدة، فإنّه جليل القدر. والنّاس ينهَوْن عن هذا، وربّما أدّى بحثُ بعضهم إلى أنّه لا يجوز.
وقيل: إنّ ذلك إنّما يفعله من الشّعراء الّذين هم في كل واد يهيمون، ويثبون على الألفاظ وثبة من لا يبالي، وهذا الأستاذ أبو منصور من أئمّة الدّين "اهـ..
ولكنّ السّيوطي رحمه الله قال:" ليس هذان البيتان من الاقتباس، لتصريحه بقول الله، وقد قدّمنا أنّ ذلك خارج عنه.
وأمّا أخوه الشّيخ بهاء الدّين فقال في "عروس الأفراح":" الورع: اجتناب ذلك كلّه، وأن ينزّه عن مثله كلام الله ورسوله صلّى الله عليه وسلّم "اهـ.
يقصد أنّ الأولى اجتنابه في الشّعر خاصّة، أمّا في النّثر فقد شاع استعمال الاقتباس في كلام العلماء.
· الأدب الرّابع عشر: التريّث في ضرب الأمثال.
فإنّ القرآن الكريم أبلغ الكلام وأحسنه، وأعلاه وأشرفه، لذلك على المسلم أن يحذر وهو يضرب الأقيِسةَ والأمثال أن يتعدّى كلام الكبير المتعال.
وقد شاع قول النّاس مثلا: إنّه أتى بحجّة أوهن من بيت العنكبوت ! وهذا خطأ، لأنّ الله عزّ وجلّ ذكر في كتابه أنّه ليس ثمّة أوهن من بيت العنكبوت، قال الزّركشي رحمه الله في "البرهان ":
" لا يجوز تعدّي أمثلةَ القرآن، ولذلك أُنْكِر على الحريري قولُه:" فأدخلني بيتا أحرج من التابوت، وأوهى من بيت العنكبوت ".
وأيّ معنًى أبلغُ من معنىً أكّده الله من ستّة أوجه، حيث قال:{وَإِنَّ أَوْهَنَ البُيُوتِ لَبَيْتُ العَنْكَبُوتِ}، فأدخل "إنّ" وبنى أفعل التّفضيل، وبناه من الوهن، وأضافه إلى الجمع، وعرّف الجمع باللام، وأتى في خبر "إنّ" باللاّم "اهـ.
( فائدة ):
قد ذهب بعض أهل الفضل إلى جواز تعدّي أمثال القرآن الكريم، مستدلاّ بأنّ الله عزّ وجلّ قال:{إِنَّ اللهَ لاَ يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا}، فجعل أدنى الأشياء هو البعوض.
ولكنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ضرب المثل بما دون البعوضة، فقال: (( إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ )) [متّفق عليه].
قال السّيوطي رحمه الله في " الإتقان ":" قد قال قوم في الآية إنّ معنى {فَمَا فَوْقَهَا} في الخِسَّة، وعبّر بعضهم عن هذا بقوله: فما دونها، فزال الإشكال "اهـ.
والله أعلم وأعزّ وأكرم.