إنّ إعراضَ الزّاوي عن المُحكَم من تراثِ ابنِ بادِيس وتفسيرِه ومقالاتِه وسيرتِه، والتمسُّكَ بمسائلَ مُحتمِلاتٍ، مخالفٌ لطرائقِ العقلاء، ومجانبٌ لمناهجِ الأُمناء.
مَثَلُ صنيعِ الزاوي كَمَثَلِ الّذي رأَى شامةً سوداءَ (خالا) في وجنَةِ غادَةٍ حَسْنَاءَ، فزعم من أجلِ ذلك أنَّ أصلَها من (تُمْبُكتُو).
يقول الزّواي في مقاله: "إنّ زوجةَ ابنِ باديسَ لَمْ تَرْتَدِ الحجابَ أبداً" !
إنّ كثرةَ توظيفِ الرِّوَائِيّين للخيالِ تجعلُهم أحياناً لا يُفرّقون بين الحقائق والهَوَس؛ ولذلك لا ينفكُّ أسلوبُ الزّاوي عن السّرد الرّوائي.
وقد وجدتُ الصِّحافِيَّ حميدة العيّاشي يَدَّعِي أنّه رأى صورةَ زوجةِ ابنِ باديس في الأرشيف !
وعلى التّسليمِ بصحّة وجودِ الصّورة وحقيقةِ صاحبتِها تبقَى الحاجةُ ماسّةً لبيانِ تاريخ التقاطِها؛ لأنّ ابنَ بادِيسَ تزوَّج وعمرُهُ خمسَ عشْرَة سنةً.
ثمّ إنّ نزعَ الحجابِ لمجرَّدِ أخذِ صورةٍ تَذكاريّةٍ كالّتِي نجدُها لأمّهاتِنا وجعلَ الصّورةِ حبيسةَ الألبومِ لا يجعلُ مِن صاحبتِها غيرَ مُحجَّبةٍ.
ثمّ أين الزّاوي من فتاوَى ابنِ باديسَ الصَّريحةِ في وجوبِ الحجاب، وهي موجودةٌ في كتبِه المطبوعة ؟
- من الأشياء التي احتجَّ بها الزّاوي على علمانيّة ابن باديسَ: "سماعُه الموسيقَى، وحضورُ المسرحِ، وتذوُّقُ الأدبِ".
وهي قضايا فرعيّةٌ اختلفت فيها آراءُ الفقهاءِ، ولا اختصاصَ لها بالعلمانيّة ولا بالبوذيّةِ.
- وأمّا ما احتجّ به الزّاوي من "تفضيل ابن باديس لمدارس الحكومة العلمانيّة"، فإنّه لا يستقيمُ بإطلاقٍ؛ إذْ إِنّه في مرحلةِ الاستعمار كان التّعليمُ تحت إشراف الدّولة الفرنسيّة عن طريق مؤسّساتها، ولا شكَّ أن ضرورةَ التعلُّم تجعلُ المسلمَ العاقلَ يُفضِّل ويختارُ المدارسَ الَّتي تقتصر مناهجُها على العلمِ المادّي المحض على مدارسِ لافيجري الكَنَسِيَّةِ.
كلُّ الأمورِ عند الزّاوي سواءٌ؛ فالاضطرارُ عنده كالتّخيير، والضّيقُ كالسَّعَةِ، والمحتَّمُ الّذي ما منه بُدٌّ مثلُ الّذي يكونُ لك فيه مطلقُ التصرّفِ، على طريقة القائل:
( ما الأمرُ إلاّ نَسَقٌ واحدُ )
- ويذكر الزّاوي في مقاله: أنّ ابنَ باديسَ شجَّع تعليمَ اللّغة الفرنسيّة.
لا شكَّ أنّ الكاتبَ يَعرِف أنَّ الْمُتاحَ في الفترة الَّتي عاش فيها ابنُ بادِيسَ هو تعلُّمُ اللّغة الفرنسيّة؛ فهي لغةُ التّعليمِ في المدارسِ الجزائريَّة الرّسميّة، وهي لغةُ العلمِ، ولغةُ المستعمِرِ الّذي تربِط الجزائريَّ بهِ روابطُ اجتماعيّةٌ، وتتّصل شؤونُه ومصالحه بها.
- ومما احتجَّ به الزّاوي أيضا مدحُ ابن باديس للعلمانيّة، ومدحُه لأتاتورك.
والّذي جهِلَه الزّاوي أنّ الشرَّ المحضَ لا يكاد توجدُ له حقيقة، وقد يكونُ المدح باعتبارِ ما في الشَّيء أو الشّخص من جوانبِ النَّفع والصّلاح، فمدحُ وفاءِ السّموألِ - مثلاً - أو الإشادةُ بإجادَة امرئِ القيس لا يعني مدحاً لليهوديّة ولا ثناءً على المجون.
والقاعدة عند العقلاء أنّ الأحكامَ كما تختلف بالحقيقة تختلف بحسب اختلاف الاعتبار.
إن الزّاوي خبيرٌ في "غسيل الأفكار"؛ فقد سطَا على عفَن كلامِ وتحليلاتِ واستنتاجاتِ الصِّحافيّ حميدة العياشي حولَ ابنِ باديس، وحاول أن يُخْفِيَ ذلك السَّطوَ متظاهراً بالقراءة الموضوعيّة لتراثِ ابنِ باديسَ، والإحاطةِ بالمؤلَّفات المكتوبةِ حولَه وبسَبْرِ حقائقها، ومحاولاً إيهامَ القارئِ أنّه يكتُب بعقل البَاحث "المسكون بالتّساؤل"، حتّى انتهى إلى تسويقِ مقالٍ مسروقٍ بعنوانٍ يُمْعِن في إخفاء السّرقة "ابنُ باديس خاصّتِي ""Mon Ben Badis à moi".
إنّ دراسةَ فكرِ ابنِ باديس واختياراتِه شأنُ الأُمَنَاء من الباحثين والمؤرّخِين، ويحتاجُ إلى إحاطةٍ بتراثِه المكتوبِ والشّفهيِّ، وإدراكٍ تامٍّ للبِيئَةِ الّتي عاش فيها والتّحدّيات الّتي واجهَهَا.
إنّ الجمعَ بين ابنِ باديسَ والعلمانيّة كالجمع بين أَمينِ الزّاوي والحياء.
إذْ كيف يأتلفُ ابنُ باديسَ والعلمانيّة وكلُّ صادقٍ يعرِف أنّ إمامَ النَّهضة ابنَ باديسَ وفكرَه ومشروعَه هو الَّذي قوَّضَ أركانَ الهيكل التّغرِيبِيّ، ونسفَ قواعدَ المشروعِ العلمانِيَّ في هذا البلد المبارك ؟!
إنّ كسادَ سوقِ عفنِ العلمانيّة في الجزائر وتَرَهُّلِ أفكارِها هو الّذي جعلَ الزّاوي يحاول أن يسوِّق لها بهذا الإعلان الذي هو من أبشع مظاهر "النَّجش الثقافي".