ويزول العجب، إذا تذكّرنا أنّ:" الضّلال لا حدّ له، وأنّ العقول إذا فسدت لم يبق لضلالها حدّ معقول " ["مجموع الفتاوى" (2/375)].
وتعجبني كلمة أحد الحكماء حين قال:" الفرق بين العبقريّة والحمق: أنّ العبقريّة لها حدّ ". أي: إنّ الحمق لا حدّ له.
ومن مظاهر هذا الاختلاط والمرج، والانحطاط والعِوج، ما يردّده بعضهم - سعياً في الفتنة وزرعاً للفرقة - أنّ الدّعوة إلى اتّباع سلف هذه الأمّة في الاعتقاد، والأحكام، والسّلوك إنّما هو دعوة الوهّابيّين، وفكرة وافدة من أهل نجدٍ التّكفيريّين !
ولو سكتوا عند هذا الحدّ لكان أهون، فهي ( شنشنة أعرفها من أخزم ).
لكنّهم سرعان ما تنطق بالتّناقض أفواهُهم، وتختلط عليهم أفهامهم، ويقعون في ( أمر مريج ) !
فبينما هم يدّعون صدّ المذهب الوافد الدّخيل، والذّود عن حمى المنهج الأصيل، إذ تسمعهم يدْعُون إلى اتّباع علماء هذه البلاد، ومن لهم أثرٌ في إصلاح العباد، كالشّيخ العلاّمة ابن باديس والإبراهيميّ رحمهما الله، ومن سار مسيرتهما، واتّبع سيرتهما !
وهم يريدون - بلا ريب - التّلبيس على العوامّ، وعلى من ليس له بالشّريعة إلمام، فينقدح في أذهانهم، ويصبح من معتقداتهم: أنّ الدّاعين إلى منهج السّلف بمعزِلٍ عن الشّيخ ابن باديس، وهذا غاية الخلط والغشّ والتّدليس.
ومع ذلك، فلا يسعنا إلاّ تلبية دعوتهم، وتحقيق رغبتهم، فنقول:
لبّيك وسعديك، وهذا الشّيخ ابن باديس رحمه الله ومن معه يردّ عليك.
* موقف الشّيخ ابن باديس رحمه الله من الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله:
- قال رحمه الله:" وابن سعود يعتنق معتقدات ( الوهّابيّة )، وهي حركة إصلاح في الإسلام ترجع إلى العلاّمة النّجدي العظيم محمّد بن عبد الوهّاب الّذي عاش في بداءة القرن الثّامن عشر.
وترمي إلى تطهير الإسلام من جميع البدع والخرافات الّتي لصقت به مع مرّ الزّمن، والسّموّ به عن عبادة الأولياء ..".
[" آثار الشّيخ ابن باديس " (2/ج2/ 236 )].
- وقال رحمه الله ردّا على من زعم أنّه يدعو إلى اتّباع الشّيخ محمّد بن عبد الوهّاب رحمه الله:
" أَفَتَعُدُّ الدّعوةَ إلى الكتابِ والسنّةِ، وما كان عليه سَلَفُ الأمّة، وطرحَ البدعِ والضّلالات، واجتنابَ الْمُرْديات والمُهلِكات، نَشْرًا للوهَّابيَّة ؟ فأئمّةُ الإسلامِ كلُّهُم وهّابيّون، ما ضَرَّنا إذا دعوْنَا إلى ما دعا إليه جميعُ أئمّةِ الإسلام !؟ ".
["آثار الشّيخ ابن باديس" (5/282-283)].
- وقال رحمه الله أيضا يبيّن حقيقة دعوة الشّيخ ابن عبد الوهّاب رحمه الله:
" سبق الشّيخ ابن عبد الوهّاب في هذا العصر الأخير غيرَه إلى الدّعوةِ إلى الكتاب والسنّة وهديِ السّلفِ الصّالح مِن الأُمّة، وإلى محاربة البدع والضّلالات، فصار كلُّ من دعَا إلى هذا يُقال فيه وهّابيّ ".
["الشِّهاب" من المجلّد 10 الجزء 6 ص: 261].
- وقال رحمه الله في مقام آخر:
" يسمُّوننا بالوهّابيِّين، ويُسمُّون مذهبنا بالوهّابيّ باعتبار أنّه مذهبٌ خاصّ، وهذا خطأٌ فاحشٌ، نشأ عن الدّعايات الكاذبة الّتي يبُثُّها أهل الأغراض.
نحن لسْنَا أصحابَ مذهبٍ جديدٍ وعقيدةٍ جديدة، ولم يأْتِ محمّد بنُ عبد الوهّاب بالجديد، فعقيدتُنا هي عقيدةُ السَّلَف الصّالح، الّتي جاءت في كتاب الله وسُنّة رسوله، وما كان عليه السّلف الصّالح ...
هذه هي العقيدةُ الّتي قام شيخ الإسلام محمّد بن عبد الوهّاب يدعُو إليها، وهذه هي عقيدتُنا، وهي مبنيّةٌ على توحيد اللهِ عزّ وجلّ، خالصةٌ من كلِّ شائبة، منزّهةٌ عن كلِّ بدعةٍ، فعقيدةُ التّوحيد هذه هي الّتي ندْعُو إليها، وهي الّتي تُنْجِينا ممّا نحنُ فيه مِن إِحَنٍ وأَوْصَابٍ "اهـ.
["الشّهاب" من المجلّد 5 الجزء 6 ص: 40 - 42].
فهل علم هؤلاء النّابزون لغيرهم، أنّهم يتّهموننا بما اتُّهِم به الشّيخ ابن باديس رحمه الله نفسُه ؟!
حقّاً إنّهم لفي أمر مريج.
- وقال رحمه الله مُثنِياً على دعوة الشّيخ محمّد عبد الوهّاب رحمه الله:
" الإصلاحيّون السّلفيّون عامّ، والوهّابيّون خاصّ؛ لأنّه يُطلقُ على خصوصِ من اهتدَوْا بدعوة العلاّمة الإصلاحيّ السّلفيّ الشّيخ ابن عبد الوهّاب ".
["الشّهاب" العدد (98) ص: 2-8].
* من كلام الشّيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله تعالى:
" ويقولون عنّا: إنّنا وهّابيون !
كلمة كثُرَ تَردادُها في هذه الأيّام الأخيرة، حتّى أنْسَتْ ما قبلها من كلمات ( عبداويّين، وإباضيّين، وخوارج ).
فنحن بحمد الله ثابتون في مكان واحد، وهو مستقرّ الحقّ، ولكنّ القومَ يصبغوننا في كلّ يوم بصبغة، ويَسِمُونَنَا في كلّ لحظة بسِمَة، وهم يتّخذون من هذه الأسماء المختلفة أدواتٍ لتنفير العامّة منّا، وإبعادها عنّا، وأسلحةً يقاتلوننا بها !
وكلّما كَلَّت أداةٌ جاءوا بأداةٍ، ومن طبيعة هذه الأسلحة الكلال وعدم الغناء، وقد كان آخر طراز من هذه الأسلحة المفلولة الّتي عرضوها في هذه الأيّام كلمة ( وهّابي )، ولعلهم حشدوا لها ما لم يحشدوا لغيرها، وحفلوا بها ما لم يحفلوا بسواها ...
إنّ العامّة لا تعرف من مدلول كلمة ( وهّابي ) إلاّ ما يُعرّفُها به هؤلاء الكاذبون، وما يعرِف منها هؤلاء إلاّ الاسم، وأشهر خاصّةٍ لهذا الاسم، وهي أنّه يُذيب البدع كما تذيب النّار الحديد ...
ولا دافع لهم إلى الحشد في هذا إلاّ أنّهم موتورون لهذه الوهّابية التي هدمت أنصابَهم، ومحت بدعَهم فيما وقع تحت سلطانها من أرض الله، وقد ضجّ مبتدعة الحجاز، فضج هؤلاء لضجيجهم، والبدعة رَحِمٌ ماسّة "اهـ.
ثم بيّن رحمه الله أن دعوة "جمعيّة العلماء المسلمين الجزائريّين" ودعوة الوهّابيين دعوةٌ واحدة وقال:
" ونحن في الجزائر وهم في الجزيرة، ونحن نُعمِلُ في طريق الإصلاح الأقلامَ، وهم يُعملون فيها الأقدام، وهم يعملون في الأضرحة المعاول، ونحن نعمل في بانيها المقاول ".
[" الآثار " للبشير الإبراهيمي (1/123-124)].
ونختم هذه الكلمة المختصرة بكلمة جليلة للشّيخ ابن باديس رحمه الله، حيث قال:
" وسيبقى كذلك على الدّهر من ينصر السنّة ويؤيّدها ويدافع عنها، ومن ينشر البدعة وينفخ في بوقها وينقر على طبلها {وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ} [الحجّ من: 40]".
[" آثار الشّيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله " (2/50)].
والله تعالى الموفّق لا ربّ سواه.