هذه صرخة كلّ رجل حمل لواء الإصلاح، ليقود أمّته إلى درب الفوز والفلاح ..
تساؤل يطرحه كلّ عامل في حقل الدّعوة إلى ربّ البريّة، ليُنقذ أمّته من كلّ رزيّة وبليّة ..
ولن تجد لهذا السّؤال جوابا، ولن تفتح للحقيقة بابا، إلاّ إذا علمت أنّ ( الفاضي يعمل قاضي ).
إنّه مثلٌ عامّي من أمثال أهل المشرق العربيّ، وله حظّ وافر في الميدان الأدبيّ ..
( الفاضي ): هو الفارغ، الّذي لا عمل له، مشتقّ من الفضاء، وهو الخلاء والفراغ كما في معاجم اللّغة العربيّة.
و( يعمل قاضي ) أي: قاضياً، وإنّما لم يظهر نصب ( قاضي ) في المثل، على عادة ما درج عليه اللّسان العامّي من تسكين أواخر الكلمات مطلقا، ولو في حالة النّصب، وهو لغة ربيعة.
ومعنى المثل: أنّ من كان من زمرة البطلة، لا شغل له ولا مشغلة، تراه يُنصّب نفسَه ( الفارغة ) منصِب القاضي بين الأجناس، لا شأن له إلاّ الحكم على النّاس !
فلكيلا يُشار إليهم بأنّهم من القواعد، تراهم يشمّرون عن السّواعد، لا للإصلاح واللّحاق بالرّكب، ولكن لصنع الجراح والطّعن والثّلب !
فكانوا " أَفْرَغَ مِنْ حَجَّامِ سَابَاطٍ ".
فقد كان هناك حجّامٌ بساباط - إحدى بُليدات الفرس -، وربما مرّت به الأيام فلا يدنو منه أحد ليحجمه ! فكانت أمّه تخرج فيحجمها؛ ليرى النّاس أنّه غير فارغ ! فلا يزال كذلك حتّى نزفها فماتت ! [انظر " جمهرة أمثال العرب "].
ومن تأمّل حال جلّ البغاة، ممّن لبس ثوب القضاة، لألفاهم براميل فارغة، تحدث من الصّوت ما لا يُحدثه البرميل المليء، فكم نزفوا من الدّماء، وفتكوا بالعلماء !
وكان الأولى بهم أن يُيَمِّموا شطر أنفسهم العاطلة، فيزكّوها من هذه الخصلة القاتلة، ولكن .. كما قال النبيّ صلّى الله عليه وسلّم: (( يُبْصِرُ أَحَدُكُمْ القَذَى فِي عَيْنِ أَخِيهِ، وَيَنْسَى الْجِذْعَ فِي عَيْنِهِ !)).
[رواه ابن حبّان في "صحيحه"، وأبو نعيم في "الحلية"، وصحّحه الشّيخ الألباني في "الصّحيحة" (33)].
و( القذى ) هو العمش، والمقصود به العيوب الهيّنة الصّغيرة اّلتي لا تكاد تدرك.
و( الجذع ) هو واحد جذوع النّخل، والمقصود به العيوب البيّنة الكبيرة الّتي لا يجوز أن تُترك !
فحال كثير من هؤلاء الفارغين كحال من يتفطّن لصغار عيوب النّاس، غافلا عن كبائر عيوبِ نفسه !
وأكبر جذعٍ غفل عن التفطّن إليه هو الفراغ الّذي خيّم عليه، وكبّل كلتا يديه.
وما أحسن قولَ أحدهم:
عَجِبْتُ لِمَنْ يَبْكِي عَلَى مَوْتِ غَيْرِهِ *** دُمُوعاً، وَلاَ يَبْكِي عَلَى مَوْتِهِ دَمَا
وَأَعْجَبُ مِنْ ذَا أَنْ يَرَى عَيْبَ غَيْرِهِ *** عَظِيماً، وَفِي عَيْنَيْهِ عَنْ عَيْبِه عَمَى
وقد تسابّ رجلان، فقال أحدهما: حِلمي عنك بما أعرف من نفسي.
وقيل للرّبيع بن خثيم رحمه الله: ما نراك تغتاب أحداً ؟ فقال:" لست عن حالي راضياً حتّى أتفرغ لذمّ النّاس ".
وعن عون بن عبد الله رحمه الله قال:" لا أحسب الرّجل ينظر في عيوب النّاس إلاّ من غفلة قد غفلها عن نفسه ".
وعن محمّد بن سيرين رحمه الله قال:" كنّا نُحدَّث أنّ: أكثر النّاس خطايا أفرغهم لذكر خطايا النّاس "!
فليكُن شعار المسلم ( شغلتني عيوبي عن غيري )، فيرجع إلى نفسه باللّوم والعتاب، وإلى الله بالاستغفار والمتاب.
وهذا بكر بن عبد الله المزني رحمه الله يقول وهو في جمع يوم عرفة:" ما أحلى هذا الجمع لولا أنّي فيهم !".
وقال مطرّف بن عبد الله رحمه الله في وقفة عرفة:" اللهمّ لا تردّ هذا الجمع من أجلي " !
وقال مالك بن دينار رحمه الله:" إذا ذُكِر الصّالحون فأفٍّ لي وتفٍّ ".
والله لو علموا قُبـح سريرتي *** لأَبَـى السّلامَ عليّ من يلقاني
ولأعرضوا عنّي وملّوا صحبتي *** ولبُؤْت بعد كـرامة بهـوان
لا تشغلنّ بعيب غيرك غافلا *** عن عيب نفسك إنّـه عيبان