كما كانت تلك الهديّة بيانا للنّاس جميعِهم أنّ المسلمين هم أعظم وأولى من يُعظّم حرمات الله.. تلكم الهديّة هي:
تحوّل القبلة إلى بيت الله المحرّم.
كان هذا التّحويل فيما مضى شوقاً وأمنيةً يتردّدان في صدر النبيّ صلّى الله عليه وسلّم، وقد أظهر ذلك يوم كان يُصلّي إلى بيت المقدس ويجعل الكعبة بينه وبين بيت المقدس حتّى لا تفارقَ وجهَه.
ولطالما تمنّى أن يستقبل بيت الله الحرام الّذي ترعرع إلى جانبه ووضع حجرَه.
روى البخاري ومسلم عن البرَاءِ بنِ عازِبٍ رضي الله عنه:
أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم كَانَ أَوَّلَ مَا قَدِمَ الْمَدِينَةَ نَزَلَ عَلَى أَجْدَادِهِ - أَوْ قَالَ أَخْوَالِهِ - مِنْ الْأَنْصَارِ، وَأَنَّهُ صَلَّى قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ سِتَّةَ عَشَرَ شَهْرًا أَوْ سَبْعَةَ عَشَرَ شَهْرًا.
وَكَانَ يُعْجِبُهُ أَنْ تَكُونَ قِبْلَتُهُ قِبَلَ الْبَيْتِ، وَأَنَّهُ صَلَّى أَوَّلَ صَلَاةٍ صَلَّاهَا صَلَاةَ الْعَصْرِ، وَصَلَّى مَعَهُ قَوْمٌ، فَخَرَجَ رَجُلٌ مِمَّنْ صَلَّى مَعَهُ فَمَرَّ عَلَى أَهْلِ مَسْجِدٍ وَهُمْ رَاكِعُونَ فَقَالَ: أَشْهَدُ بِاللهِ: لَقَدْ صَلَّيْتُ مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قِبَلَ مَكَّةَ، فَدَارُوا كَمَا هُمْ قِبَلَ الْبَيْتِ.
وَكَانَتْ الْيَهُودُ قَدْ أَعْجَبَهُمْ إِذْ كَانَ يُصَلِّي قِبَلَ بَيْتِ الْمَقْدِسِ وَأَهْلُ الْكِتَابِ، فَلَمَّا وَلَّى وَجْهَهُ قِبَلَ الْبَيْتِ أَنْكَرُوا ذَلِكَ !
وفي رواية لابن إسحاق عن البراء رضي الله عنه:" كان رسول الله صلّى الله عليه وسلّم يُصلّي نحو بيت المقدس، ويُكثر النّظر إلى السّماء ينتظر أمر الله، فأنزل الله:{قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ} [البقرة: من الآية144]".
وكان الحدث أكبرَ من أن يوصف.. فما أعظمَ فرحةَ المهاجرين والأنصار باستقبالهم بيتَ إبراهيم عليه السّلام !
وكان حدثا أشدّ على قلوب اليهود من وقع السّيوف.. فتراهم مجتمعين متسائلين:{مَا وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كَانُوا عَلَيْهَا} ؟!
مع أنّهم يعلمون أنّها القبلة الحقّ، وأنّها قبلة أبي الأنبياء وإمام الحنفاء إبراهيم عليه السّلام:{وَإِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ} [البقرة: من الآية144].
ثمّ تفطّن شياطينُهم .. فلا بدّ أن يفعلوا شيئا مقابلَ هذا التحوّل .. فَلِمَ لا يُثِيرون الشُّبه ؟
فقالوا: إنْ كان ما كان عليه حقّاً فلمَ تركه ؟ وإن كان باطلا فهل يكون نبيّ على باطل ؟!
ويأتيهم جواب شياطين الشّرك بمكّة: لا شكّ أنّه حنّ إلى دين أجداده ! لن تمرّ عليه الأيّام حتّى يعود إلى دين آبائه وأجداده !
وهؤلاء لا يمكن إقناعهم بالحقّ، لذلك أعرض الله عنهم، فقال سبحانه:{وَلَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ بِكُلِّ آيَةٍ مَا تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَمَا أَنْتَ بِتَابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَمَا بَعْضُهُمْ بِتَابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءَهُمْ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ} [البقرة:145].
وقال عزّ وجلّ:{وَمِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَحَيْثُ مَا كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي وَلِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ} [البقرة:150] أي: تهتدون إلى ما ضلّت عنه اليهود والنّصارى..
وكانت فتنة على بعض ضعفة الإيمان، حيث أصابتهم حيرةٌ من جرّاءِ هذه التّساؤلات الّتي يطرحها اليهود، فقال تعالى:{وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ} [البقرة: من الآية143]..
الّذين هداهم الله لم يتساءلوا ولم يناقشوا الأمر، فالأمر وحي من السّماء.. ولا يملك أحد شيئا، لا اليهود ولا المشركون ولا المسلمون:{قُلْ للهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ} [البقرة: من الآية142]..
ورأينا الّذين هداهم الله كيف التفتوا إلى القِبلة وهم يُصلّون حين بلغهم الخبر.
حتّى المصلّون بقباء قد بلغهم الخبر متأخّرا، ولكنّهم امتثلوا للأمر دون توقّف.
روى البخاري ومسلم عن عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رضي الله عنه قالَ: بَيْنَا النَّاسُ بِقُبَاءٍ فِي صَلَاةِ الصُّبْحِ، إِذْ جَاءَهُمْ آتٍ فَقَالَ: إِنَّ رسُولَ اللهِ صلّى الله عليه وسلّم قَدْ أُنْزِلَ عَلَيْهِ اللَّيْلَةَ قُرْآنٌ، وَقَدْ أُمِرَ أَنْ يَسْتَقْبِلَ الْكَعْبَةَ، فَاسْتَقْبِلُوهَا ! وَكَانَتْ وُجُوهُهُمْ إلى الشَّأْمِ، فَاسْتَدَارُوا إِلَى الْكَعْبَةِ.
الّذين هداهم الله كانوا أرقى فكراً وأرقّ قلباً ..
كانوا أرقَى فكراً من ردّ الأوامر ..
وأرقَّ قلوبا وألينَ أفئدةً؛ فلم يسألوا إلاّ عن إخوانهم الّذين ماتوا قبل تشريع هذا الحكم، وجاء الجواب من الله تعالى.
قال البراء رضي الله عنه - كما في حديثه في البخاري -: وَمَاتَ عَلَى القِبْلَةِ قَبْلَ أَنْ تُحَوَّلَ رِجَالٌ وَقُتِلُوا، فَلَمْ نَدْرِ مَا نَقُولُ فِيهِمْ ؟ فَأَنْزَلَ اللهُ تعالى:{وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ}.
فكان في تحويل القِبلةِ دروسٌ وعِبرٌ:
1- أنّ المسلمين في غِنًى تامٍّ عن شريعة غيرهم، ولو كانت تُنسَب إلى الرّهبان والأحبار، فكيف بقوانين تأتي من وراء البحار ؟
2- أنّ المسلمين أولى بالحقَّ من غيرهم، فلا يُتركُ الحقّ من أجل أهل الباطل، فالبيت الحرام قِبلةُ حقٍّ، ولا يضرّ أن يكون عليها المشركون.
3- إرضاء النّاس غايةٌ لا تُدرَك، وإرضاء الله غايةٌ لا تُتركُ.
فالقبلة الحقّ فيها إرضاءٌ لله تعالى، فلا عبرة ولا التفات إلى كلام المشركين واليهود.
4- العبرة بما في ظنّ المكلّف.
فإذا عمِل المسلمُ بما يعتقِدُه صوابا وحقّا، فإنّه قد أدّى الّذي عليه، ثمّ إذا تبيّن له الحقّ في غيره، عمِل به، ولا يُعِيد العبادات السّابقة، فإنّ الصّحابة ما أمِروا بإعادةِ صلاتِهم عندما حُوِّلت القبلة.
والله الموفّق لا ربّ سواه.