أوّلا: حقيقة فصل الشّتاء.
بعد أيّام سنستمع إلى حديث النّاس عن البرد والقرّ يملأ جلّ الأوقات، وكيفيّة التخلّص منه تصير من أعظم الانشغالات ..
كلّ النّاس يشكو قساوة البرد، وكلٌّ يتّخذ التّدابير لئلاّ يعاني من آلامه، وليسلم من أسقامه.
وهذا ليس معيـبا، ولا أمرا عجيبا، ولكنّ العجيب والمعيب أن لا يُربط هذا الأمر بشرع الله !
المعيب أنّهم كما جهلوا حقيقة الحرّ في فصل الصّيف، جهلوا أو نسُوا حقيقة القرّ في فصل الشّتاء !..
وخاصّة مع الحملة العلمانيّة العظيمة التي تقام على النّظرة الشّرعيّة للظّواهر الطّبيعيّة ..
فاستمع إلى الأخبار الصّحيحة ممّن لا يعتمد على الأحوال الجوّية .. ولكنّه اعتمد على وحي ربّ البريّة .. خبر موقّع عليه {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الهَوَى إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى .. {
روى البخاري ومسلم عن أَبي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَال: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: )) اشْتَكَتْ النَّارُ إِلَى رَبِّهَا، فَقَالَتْ: رَبِّ أَكَلَ بَعْضِي بَعْضًا ! فَأَذِنَ لَهَا بِنَفَسَيْنِ: نَفَسٍ فِي الشِّتَاءِ، وَنَفَسٍ فِي الصَّيْفِ، فَهُوَ أَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الْحَرِّ، وَأَشَدُّ مَا تَجِدُونَ مِنْ الزَّمْهَرِيرِ )).
وروي عن ابن عباس رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قال: ( يستغيث أهل النار من الحر فيغاثون بريح باردة يصدع العظام بردها فيسألون الحر ويستغيثوا بحرّ جهنّم (.
فتذكّر شدّة زمهرير جهنّم بشدّة البرد القارس في الدّنيا، لأنّ ربط المشاهد الدنيويّة بالآخرة يزيد المرء إيمانا على إيمانه، يقول أحد الزّهاد : )ما رأيت الثّلج يتساقط إلاّ تذكّرت تطاير الصّحف يوم الحشر والنّشر.)
ثانيا: فضل هذا الموسم:
إنّما يُعظّم الموسم بما فيه، ولا شكّ أنّ هذا الفصل قد حوى نعمة من نعم الله الظّاهرة، وهي نعمة المطر، وقد عظّم الله المطر في كتابه الكريم، من وجوه عديدة:
أ) جعله الله سببا من أسباب الرّزق:
الرّزق الذي تبكي لأجله الأمم، فقال:{وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ { [الأنعام من الآية:99]، وقال تعالى:{وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ{ [الحج: من الآية5].. وقال:{هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لَكُمْ مِنْهُ شَرَابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ{ [النحل:10] وغيرها من الآيات.
ب) أنّ الله عظّم المطر حتّى جعله من مفاتيح الغيب:
فقال عزّ وجلّ:{وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ{ [الأنعام: من الآية59]، وهي الأمور الخمسة المذكورة في أواخر سورة لقمان، قال عَزَّ وَجَلَّ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَداً وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ{ [لقمان:34].
روى البخاري عن عَبْدِ اللَّهِ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: )) مَفَاتِيحُ الْغَيْبِ خَمْسٌ، ثُمَّ قَرَأَ:{إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ{ الآية .((
ت) أنّ الله سمّى المطر رحمة في كثير من الآيات:
فقال:{وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ{ [الأعراف 57]، وقال:{وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّيَاحَ مُبَشِّرَاتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ{.
ث) أنّ الله شبّه الوحي به:
قال تعالى:{أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَسَالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِهَا فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رَابِياً وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذَلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ{ [الرعد:17].
وكذلك فعل النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقد روى البخاري عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: )) مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنْ الْهُدَى وَالْعِلْمِ كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ ((.. الحديث.
ج) أنّ الله تعالى وصفه في كتابه العزيز بصفات تدلّ على عظمته..
فوصفه بالبركة، فقال:{وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكاً فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ{ [ق:9].
ووصفه بأنّه فراتٌ، أي: عذب، فقال:{وَأَسْقَيْنَاكُمْ مَاءً فُرَاتاً{ [المرسلات: من الآية27].
ووصفه بأنّه مطهِّر فقال:{وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُوراً{ [الفرقان: من الآية48].
ولذلك كان النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يسأل ربّه أن يُطهّره به فكان يقول بعد تكبيرة الإحرام عند استفتاحه الصّلاة: )) وَنَقِّنِي مِنْ خَطَايَايَ بِالمَاءِ وَالثَّلْجِ وَالبَرَد )).
ثالثا: تعظيم السّلف الصّالح لهذا الموسم.
لقد أدرك سلف هذه الأمّة فضلَ هذا الموسم العظيم، وأنّه رحمة من العليّ الكريم، فراحوا يسارعون في الخيرات، واغتنام الأجر والثواب في الأعمال الصّالحات، وممّا جاء من الآثار في فضل الشّتاء:
- ما رواه أحمد والترمذي بسند حسن - كما قال الشّيخ الألباني رحمه الله - عَنْ عَامِرِ بْنِ مَسْعُودٍ الْجُمَحِيِّ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: )) الصَّوْمُ فِي الشِّتَاءِ الْغَنِيمَةُ الْبَارِدَةُ )).
قال ابن رجب رحمه الله:" غنيمة باردة لأنها حصلت بغير قتال ولا تعب ولا مشقة، فصاحبها يحوز هذه الغنيمة عفوا صفوا بغير كلفة ".
- وكان أبو هريرة رضي الله عنه يقول:" ألا أدلّكم على الغنيمة الباردة " قالوا: بلى؛ فيقول: "الصّيام في الشّتاء وقيام ليل الشّتاء". نسأل الله أن يوفقنا لأدائهما.
فحريٌّ بنا أيّها المؤمنون اقتناص هذه الغنيمة لا سيّما في الأيّام الفاضلة مثل الاثنين والخميس أو الأيّام البيض ونحو ذلك.
- وعن ابن مسعود رَضِيَ اللهُ عَنْهُ أنّه قال: ( مرحبًا بالشتاء، تنزل فيه البركة، ويطول فيه اللّيل للقيام، ويقصر فيه النّهار للصّيام ).
- وقال الحسن البصري رحمه الله: ( نعم زمان المؤمن الشتاء: ليله طويل فيقومه، ونهاره قصير فيصومه).
- ومن درر كلامه رحمه الله قوله: ) الشّتاء ربيع المؤمن (..
- وهذا كلام في غاية الجمال حتّى ظنّه بعضهم حديثا مرفوعا، قال ابن رجب رحمه الله في شرحه:
" وإنما كان الشتاء ربيع المؤمن لأنه يرتع فيه في بساتين الطاعات، ويسرح في ميادين العبادات، ويتنـزّه قلبه في رياض الأعمال الميسرة فيه، ويصلح بين المؤمن في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة من الطاعات، فإن المؤمن يقدر في الشتاء على صيام نهاره من غير مشقة، ولا كلفة تحل له من جوع ولا عطش، فلا يحس بمشقة الصيام "اهـ.
- وعن عبيد بن عمير رحمه الله أنّه كان إذا جاء الشّتاء قال: ) يا أهل القرآن ! طال ليلكم لقراءتكم فاقرؤوا، وقصُر النّهار لصيامكم فصوموا (.
- - وقال يحيى بن معاذ: ) اللّيل طويل فلا تقصّره بمنامك، والإسلام نقيّ فلا تدنّسه بآثامك (.
- فلا شكر لهذه النّعمة إلاّ إذا قمنا وامتثلنا بالآداب الإسلاميّة، والأحكام الشّرعيّة المتعلّقة بهذا الفصل.
رابعا: ولكن قد يكون المطر من النّقم..
تذكّر قول الله تعالى:{وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ{ [إبراهيم:7].
لذلك قال كثير من السّلف:" قيّدوا نِعم الله بالشّكر ".. وإلاّ تحوّلت مظاهر النّعم إلى مصائب ونِقم.
فقد عذّب الله أقواماً بالريح الباردة في الشّتاء كقوم عاد، وعذّب قوم نوح بماء نابع من الأرض ونازل من السّماء، قال تعالى:{فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12){ [القمر]..
وروى البخاري ومسلم عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: كَانَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا رَأَى مَخِيلَةً - وهو السّحاب الذي يخال فيه الماء - فِي السَّمَاءِ أَقْبَلَ وَأَدْبَرَ، وَدَخَلَ وَخَرَجَ، وَتَغَيَّرَ وَجْهُهُ، فَإِذَا أَمْطَرَتْ السَّمَاءُ سُرِّيَ عَنْهُ، فَعَرَّفَتْهُ عَائِشَةُ ذَلِكَ فَقَالَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( يَا عَائِشَةُ ! وَمَا يُؤَمِّنُنِي، قَدْ رَأَى قَوْمُ عَادٍ العَذَابَ عَارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ فَقَالُوا: هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا، قَالَ الله تَعَالىَ:{بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُم بِهِ: رِيحٌ فِيهَا عَذَابٌ أَلِيمٌ(({ [الأحقاف:24].
خامسا: كيف نشكر هذه النّعمة..
إنّنا في هذه الأيّام نتقلّب في نعمة من نعم الله وافرة، فسماؤنا تمطر، وأشجارنا تثمر، وما هذا إلا نعمة ورحمة من المنعم الرّحمن المنّان.
فوالله، لولا الله ما سُقينا، ولا تنعّمنا بما أوتينا {أَفَرَأَيْتُمْ الْمَاءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أَأَنْتُمْ أَنزَلْتُمُوهُ مِنْ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنزِلُونَ لَوْ نَشَاءُ جَعَلْنَاهُ أُجَاجاً فَلَوْلا تَشْكُرُونَ{ [الواقعة:68-70]، أجاج أي: شديد الملوحة.
تأمّل نعمة الله في قوله تعالى:{هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ{ [الرعد:12].
نعم.. ينشئ السّحاب الثّقال.. هذه السّحب الّتي نراها كلّ يوم بأشكال متنوّعة، وأحجام كبيرة مختلفة، كم طنًّا تزن ؟..
إن المِتر المكعّب الواحد يزن طنًّا كاملا، فكم فيها من الأطنان ؟! ومن يحملها بهذه الأوزان ؟! إننا لا نستطيع أن نتصوّر وزنها، غير أنّها ثقال كما قال ربّنا المتعال.
اللّهمّ لك الشّكر على آلائك الّتي لا تعدّ ولا تحصى..
اللهمّ لو شئت لجعلت ماءنا أجاجاً، ولكن رحمتك أدركتنا فجعلته عذباً زلالاً، فلك الشّكر، فما بنا من نعمة فمنك وحدك لا شريك لك.
فكيف نشكر الله على نعمائه وآلائه ؟ هذا ما سنبيّنه إن شاء الله لاحقا.
[ يـتـبـع إن شاء الله ]