العنوان |
استماع المادة |
تحميل المادة |
شرح كتاب الحجّ 24: فضائل المدينة النّبويّة والموت بها (2) تابع: الباب الخامس عشـر: ( التّرغيب في سُكنى المدينة إلى الممات، وما جاء في فضلها، وفضل أُحُدٍ، ووادي العقيق ). الأحاديث: الثّامن، والتّاسع، والعاشر، والحادي عشر 1193-وَعَنْ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا، فَإِنِّي أَشْفَعُ لِمَنْ يَمُوتُ بِهَا )).
[رواه التّرمذي، وابن ماجه، وابن حبّان في "صحيحه"، والبيهقيّ] ولفظ ابن ماجه: (( مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَفْعَلْ، فَإِنِّي أَشْهَدُ لِمَنْ مَاتَ بِهَا )). وفي رواية للبيهقيّ: قال رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ، فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ بِالمَدِينَةِ شَفَعْتُ لَهُ يَوْمَ القِيَامَةِ )). 1194-وَعَنِ الصُّمَيْتَةِ - امْرَأَةٌ مِنْ بَنِي لَيْثٍ[1] رضي الله عنها- أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ لاَ يَمُوتَ إِلاَّ بِالْمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ بِهَا، فَإِنَّهُ مَنْ يَمُتْ بِهَا يُشْفَعْ لَهُ، أَوْ يُشْهَدْ لَهُ )). [رواه ابن حبان في "صحيحه"، والبيهقيّ]. 1195-وفي رواية للبيهقيّ أَنَّهَا سَمِعَتْ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( مَنْ اسْتَطَاعَ أَنْ يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ، فَمَنْ مَاتَ بِالمَدِينَةِ كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا )). 1196-وَعَنْ سُبَيعَةَ الأَسْلَمِيَّةِ رضي الله عنها أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ، فَإِنَّهُ لاَ يَمُوتُ بِهَا أَحَدٌ إِلاَّ كُنْتُ لَهُ شَفِيعًا أَوْ شَهِيدًا يَوْمَ القِيَامَةِ )). [رواه الطّبراني في "الكبير"، ورواته محتجّ بهم في "الصّحيح"، إلاّ عبدَ الله بن عكرمة، روى عنه جماعة، ولم يخرجه أحد، وقال البيهقيّ: "هو خطأ، وإنّما هو عن صُمَيْتَة " كما تقدّم. 5- الفضل الخامس: أنّها أمان من الدجّال، والطّاعون. * الحديث الثّاني عشـر: 1197-وَعَنِ امْرَأَةٍ يَتِيمَةٍ كَانَتْ عِنْدَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ ثَقِيفٍ، أَنَّ رَسُولَ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَمُوتَ بِالمَدِينَةِ فَلْيَمُتْ، فَإِنَّهُ مَنْ مَاتَ بِهَا كُنْتُ لَهُ شَهِيدًا أَوْ شَفِيعًا يَوْمَ القِيَامَةِ )). [رواه الطّبراني في "الكبير" بإسناد حسن]. ( قال المملي ) الحافظ رحمه الله: " وقد صحّ من غير طريق عن النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( إِنَّ الوَبَـاءَ وَالدَّجَّـالَ لاَ يَدْخُـلاَنِـهَا )). اختصرت ذلك لشهرته ".
فإنّ المدينة النّبويّة – حرسها الله – لجليل حرمتها، وعظيم بركتها، جعلها الله عزّ وجلّ عصمةً من أمرين عظيمين: أ) جعلها الله عصمة من فتنة الأهوال، وأكبر أئمّة الضّلال: المسيح الدجّال. فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( يَأْتِي الْمَسِيحُ مِنْ قِبَلِ الْمَشْرِقِ، هِمَّتُهُ الْمَدِينَةُ، حَتَّى يَنْزِلَ دُبُرَ أُحُدٍ، ثُمَّ تَصْرِفُ الْمَلَائِكَةُ وَجْهَهُ قِبَلَ الشَّامِ، وَهُنَالِكَ يَهْلِكُ )). وفي الصّحيحين عن أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه عَنْ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( لَيْسَ مِنْ بَلَدٍ إِلَّا سَيَطَؤُهُ الدَّجَّالُ، إِلَّا مَكَّةَ وَالْمَدِينَةَ، لَيْسَ لَهُ مِنْ نِقَابِهَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ الْمَلَائِكَةُ صَافِّينَ يَحْرُسُونَهَا، ثُمَّ تَرْجُفُ الْمَدِينَةُ بِأَهْلِهَا ثَلَاثَ رَجَفَاتٍ، فَيُخْرِجُ اللَّهُ كُلَّ كَافِرٍ وَمُنَافِقٍ )). ب) وجعل الله المدينة عِصمةً وأمانا من الطّاعون. فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( عَلَى أَنْقَابِ الْمَدِينَةِ مَلَائِكَةٌ، لَا يَدْخُلُهَا الطَّاعُونُ وَلَا الدَّجَّالُ )). والطّاعون هو الوباء العام الّذي يصيب النّاس، وقد جعله الله عذابا للفاسقين وشهادة للصّالحين، روى الإمام أحمد عَنْ أَبِي مُوسَى رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( فَنَاءُ أُمَّتِي بِالطَّعْنِ وَالطَّاعُونِ )) فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! هَذَا الطَّعْنُ قَدْ عَرَفْنَاهُ، فَمَا الطَّاعُونُ؟ قَالَ: (( وَخْزُ أَعْدَائِكُمْ مِنْ الْجِنِّ وَفِي كُلٍّ شُهَدَاءُ )). قال العلماء: وفي منع الملائكة للطّاعون حفظا للأبدان، وفي منعها للدجّال حفظا للأديان. 6- الفضل السّادس: أنّها أرض مباركة. * الحديث الثّالث عشـر: 1198-وَعَنْ أَبِي قَتَادَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوَضَّأَ، ثُمَّ صَلَّى بِأَرْضِ سَعْدٍ بِأَصْلِ الْحَرَّةِ، عِنْدَ بُيُوتِ السُّقْيَا ثُمَّ قَالَ: (( [اللَّهُمَّ] إِنَّ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلَكَ وَعَبْدَكَ وَنَبِيَّكَ دَعَاكَ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ وَرَسُولُكَ أَدْعُوكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ مِثْلَ مَا دَعَاكَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ لِمَكَّةَ، نَدْعُوكَ أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ وَثِمَارِهِمْ، اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ، كَمَا حَبَّبْتَ إِلَيْنَا مَكَّةَ، وَاجْعَلْ مَا بِهَا مِنْ وَبَاءٍ بِـ(خُـمٍّ)، اللَّهُمَّ إِنِّي قَدْ حَرَّمْتُ مَا بَيْنَ لَابَتَيْهَا كَمَا حَرَّمْتَ عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ الْحَرَمَ )). [رواه أحمد، ورجال إسناده رجال الصّحيح].
- قوله: ( وَاجْعَلْ مَا بِهَا مِنْ وَبَاءٍ بِخُـمٍّ ): سيأتي – إن شاء الله – في الحديث التّالي بيان شدّة حمّى المدينة. - أمّا ( خمّ ) فقال المصنّف إنّها:- بضم الخاء المعجمة وتشديد الميم -: اسم غيضة بين الحرمين، قريبا من الجُحْفة، لا يولد بها أحدٌ فيعيش إلى أن يحتلم، إلاّ أن يرتحل عنها لشدّة ما بها من الوباء والحمّى بدعوة النبيّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وأظنّ غدير ( خمّ ) مضافا إليها. *الحديث الرّابع عشـر: 1199-وَعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: " كَانَ النَّاسُ إِذَا رَأَوْا أَوَّلَ الثَّمَرِ جَاءُوا بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَإِذَا أَخَذَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي ثَمَرِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا، اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدُكَ وَخَلِيلُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنِّي عَبْدُكَ وَنَبِيُّكَ، وَإِنَّهُ دَعَاكَ لِمَكَّةَ، وَإِنِّي أَدْعُوكَ لِلْمَدِينَةِ بِمِثْلِ مَا دَعَاكَ لِمَكَّةَ وَمِثْلِهِ مَعَهُ )). قَالَ: ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ يَرَاهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ ". [رواه مسلم وغيره].
- قوله: ( في صاعنا ومدِّنا ) يريد في طعامنا المكيل بالصّاع والمدّ، ومعناه: أنّه دعا لهم بالبركة في أقواتهم جميعا. - قوله: ( ثُمَّ يَدْعُو أَصْغَرَ وَلِيدٍ يَرَاهُ فَيُعْطِيهِ ذَلِكَ الثَّمَرَ ): فيه سنّية البدء بإعطاء الجديد من الطّعام للطّفل. وخصّ رسول الله صلّى الله عليه وسلّم الصّغير، لكونه أرغبَ فيه، وأكثرَ تطلعاً إليه، ويفرحَ ما لا يفرح به الكبير. - ومن فوائد الحديث: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا الله تبارك وتعالى أن يبارك في المدينة ضِعْفَي ما بارك في مكّة، ليُعلّمنا صلّى الله عليه وسلّم أنّ وطن المسلم لا حيث يولد جسده وينمو بنانه، ولكن حيث يصحّ إسلامه ويسلم إيمانه. والله تعالى أعلى وأعلم. تابع: الباب الخامس عشـر: ( التّرغيب في سُكنى المدينة إلى الممات، وما جاء في فضلها، وفضل أُحُدٍ، ووادي العقيق ). فإنّ ما رأيناه من فضائل المدينة النّبويّة أنّها: 1- خُصّت بأشرف الأسماء والأوصاف. 2- وأنّ من مات بها حلّت له شفاعة النبيّ صلّى الله عليه وسلّم. 3- وأنّها بلد حرام. 4- وأنّها خير البلاد بعد مكّة. 5- وأنّها حصن للأديان والأبدان. 6- وأنّها أرض مباركة. - الفضل السّابع: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم دعا أن يُرزَق حبّها. * الحديث الخامس عشـر: 1200-عَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ رَسُول اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ، وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي صَاعِهَا وَمُدِّهَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا فَاجْعَلْهَا بـ(الْجُحْفَةِ) )). [رواه مسلم، وغيره].
- قوله: ( حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ ): كما سأل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم المضاعفة في البركة، سأل المضاعفة في حبّ المدينة، لأنّه صلّى الله عليه وسلّم ترك مكّة لله تعالى وهو محبّ لها، فهو يسأله أن يُبدله حبّا أعظم من حبّه لمكّة. - قوله: ( وَانْقُلْ حُمَّاهَا بالْجُحْفَةِ ): فقد كانت المدينة أرضَ وباء وأمراض عديدة، وحمّى شديدة. روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم الْمَدِينَةَ وُعِكَ أَبُو بَكْرٍ وَبِلَالٌ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه إِذَا أَخَذَتْهُ الْحُمَّى يَقُولُ: كُلُّ امْـرِئٍ مُصَبَّـحٌ فِي أَهْلِـهِ *** وَالْمَـوْتُ أَدْنَـى مِنْ شِرَاكِ نَعْلِـهِ فَقَالَ النبيُّ صلّى الله عليه وسلّم: (( اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَعُتْبَةَ بْنَ رَبِيعَةَ، وَأُمَيَّةَ بْنَ خَلَفٍ، كَمَا أَخْرَجُونَا مِنْ أَرْضِنَا إِلَى أَرْضِ الْوَبَاءِ )). ثُمَّ دعا صلّى الله عليه وسلّم بهذا الدّعاء، وقال: (( ... وَصَحِّحْهَا لَنَا، وَانْقُلْ حُمَّاهَا إِلَى الْجُحْفَةِ )). - قوله: ( بالجحفة ): قال الخطّابي وغيره:" وكان ساكنو الجحفة يهُودا في ذلك الوقت. ففيه دليل للدّعاء على الكفّار بالأمراض والأسقام والهلاك ... وهذا مذهب العلماء كافّة ". ومن الأحاديث الّتي تكرّر معناها: * الحديث السّادس عشـر: 1201-وَعَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كُنَّا عِنْدَ السُّقْيَا الَّتِي كَانَتْ لِسَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( اللَّهُمَّ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ عَبْدَكَ وَخَلِيلَكَ دَعَاكَ لِأَهْلِ مَكَّةَ بِالْبَرَكَةِ، وَأَنَا مُحَمَّدٌ عَبْدُكَ وَرَسُولُكَ، أَدْعُوكَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ أَنْ تُبَارِكَ لَهُمْ فِي صَاعِهِمْ وَمُدِّهِمْ، مِثْلَ مَا بَارَكْتَ لِأَهْلِ مَكَّةَ، وَاجْعَلْ مَعَ البَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ )). [رواه الطّبراني في "الأوسط" بإسناد جيّد قويّ]. * الحديث السّابع عشـر: 1202-وَعَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي مَدِينَتِنَا، اللَّهُمَّ اجْعَلْ مَعَ الْبَرَكَةِ بَرَكَتَيْنِ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا مِنْ الْمَدِينَةِ شِعْبٌ وَلَا نَقْبٌ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكَانِ يَحْرُسَانِهَا )). [رواه مسلم في حديث] . * الحديث الثّامن عشـر: 1203-وَعَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( اللَّهُمَّ اجْعَلْ بِالْمَدِينَةِ ضِعْفَيْ مَا جَعَلْتَ بِمَكَّةَ مِنْ الْبَرَكَةِ )). [رواه البخاري ومسلم]. * الحديث التّاسع عشـر: 1204-وَعَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه قَالَ: دَعَا نَبِيُّ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: (( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا، وَبَارِكْ لَنَا فِي شَامِنَا، وَيَمَنِنَا )). فَقَالَ رَجُلٌ مِنَ القَوْمِ: يَا نَبِيَّ اللهِ ! وَعِرَاقِنَا ؟ قَالَ: (( إِنَّ بِهَا قَرْنَ الشَّيْطَانِ، وَتَهَيُّجَ الفِتَنِ، وَإِنَّ الجَفَاءَ بِالمَشْرِقِ )). [رواه الطّبراني في "الكبير"، ورواته ثقات].
هذا الحديث تضمّن الدّعاء بالبركة للمدينة النّبويّة - كما مرّ معنا -، وذلك قوله: ( اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِنَا وَمُدِّنَا ). ودعا بالبركة للشّام واليمن، وقد وردت أحاديث كثيرة في شأنهما، وبيان فضلهما. ولمّا كانت العراق من كبار الأمصار، وأشهر الأقطار، سأل سائل عنها. - قوله: ( وَعِرَاقِنَا ؟): وفي رواية البخاري:" وَفِي نَجْدِنَا ؟ "، والمقصود به العراق، لأنّ نجد كلّ شيء بحسَبه، قال الخطّابي رحمه الله: " من كان بالمدينة كان نجُده بادية العراق ونواحيها، وهي مشرق أهل المدينة، وأصل النّجد ما ارتفع من الأرض ". تنبيه: مِن جَهل كثير من أهل الأهواء بلغة الشّرع ولغة العرب، أنّك تراهم حملوا الحديث ( وفي نَجْدِنَا ) على نجد المعروفة بالحجاز، وقالوا: فيه إشارة إلى الوهّابيّة ! وأنّهم مصدر الفتن ! وبغضّ النّظر عن تسميتهم بـ( الوهاّبية ) فإنّهم غفلوا أو تغافلوا عن الرّواية المفسّرة لها بالعراق، كما بيّنه الحافظ ابن حجر في " الفتح " (13/38)، حيث قال: " كلّ شيء ارتفع بالنّسبة إلى ما يليه يُسمّى المرتفع نـجـدا، والمنخفض غـورا ". - قوله: ( إِنَّ بِها قَرْنَ الشَّيْطَانِ ): ذكر المصنّف رحمه الله معنيين لذلك، فقال: " قيل معناه: أتباع الشّيطان وأشياعه. وقيل: شدّته وقوّته ومحلّ ملكه وتصريفه، وقيل غير ذلك "اهـ. ويمكن أن يقال: بما أنّ العراق جهة المشرق من حيث تطلع الشّمس، فإنّ الشّيطان يقرن رأسه بالشّمس عند طلوعها ليقع سجود عبدتها له كما هو معروف. فالنبيّ صلّى الله عليه وسلّم يشير إلى أنّ تلك الجهة ليست كغيرها، فإنّ الشّيطان يرفع قرنه بها. وليس المقصود أنّ أهل العراق لا خير فيهم، فإنّ فيهم كثيرا من العلماء والصّالحين من البصرة والكوفة وبغداد: كالحسن البصريّ، والنّخعي، وأبي حنيفة، والإمام أحمد، وغيرهم كثُر، وما زالت بغداد عاصمة العلوم. ولكنّ المقصود أنّ بعض بلدان العراق في كثير من الأحيان يستحوذ عليها الشّيطان بإثارة الفتن والبلابل، وكانت أوّل الفتن وأكثرها من العراق. * الحديث العشـرون: 1205-وَعَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( رَأَيْتُ فِي المَنَامِ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ، خَرَجَتْ حَتَّى قَامَتْ بِـ( مَهْيَعَةَ )، وَهِيَ ( الجُحْفَةُ )، فَأَوَّلْتُ أَنَّ وَبَاءَ المَدِينَةِ نُقِلَ إِلَى الجُحْفَةِ )). [رواه الطّبراني في "الأوسط"، ورواة إسناده ثقات] .
قال المصنّف رحمه الله:" ( مهيعة ) - بفتح الميم وإسكان الهاء بعدها ياء مثنّاة تحت وعين مهملة مفتوحتين – هي: اسمٌ لقرية قديمة كانت بميقات الحجّ الشّامي على اثنين وثلاثين ميلا من مكّة، فلمّا أخرج العماليقُ بنِي عبيل إخوةَ عاد من يثرب نزلوها، فجاءهم سَيْل (الجُحَاف)- بضمّ الجيم - فجحفهم، وذهب بهم، فسمّيت حينئذ ( الجحفة )- بضمّ الجيم وإسكان الحاء المهملة -. * الحديث الحادي والعشـرون: 1206-وَعَنْ جَابِرٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( خَيْرُ مَا رُكِبَتْ إِلَيْهِ الرَّوَاحِلُ مَسْجِدُ إِبْرَاهِيمَ عليه السّلام، وَمَسْجِدِي )). [رواه أحمد بإسناد حسن، والطبراني وابن خزيمة في "صحيحه"] إلاّ أنّه قال: (( مَسْجِدِي هَذَا وَالبَيْتُ المَعْمُورُ )). وابن حبّان في "صحيحه" ولفظه: (( إِنَّ خَيْرَ مَا رُكِبَتْ إِلَيْهِ الرَّوَاحِلُ مَسْجِدِي هَذَا، وَالبَيْتُ العَتِيقُ )). * الحديث الثّاني والعشـرون: (قال الحافظ): 1207-وَقَدْ صَحَّ مِنْ غَيْرِ مَا طَرِيقٍ أَنَّ النَبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( لاَ تُشَدُّ الرَّوَاحِلُ إِلاَّ إِلَى ثَلاَثَةِ مَسَاجِدَ: مَسْجِدِي هَذَا، وَالمَسْجِدِ الحَرَامِ، وَالمَسْجِدِ الأَقْصَى )). [تقدّم 14-/من حديث عائشة].
سبق الكلام عن مسألة شدّ الرّحال إلى المساجد الثّلاثة بما فيه كفاية إن شاء الله. - قوله في حديث جابر: ( مَسْجِدِي هَذَا، وَالبَيْتُ المَعْمُورُ ): البيت المعمور هنا هو الكعبة شرّفها الله تعالى. أمّا البيت المعمور الّذي أقسم الله به في سورة الطّور، فهو كعبة السّماء السّابعة، ففي صحيح البخاري ومسلم وأحمد – واللّفظ له – عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( الْبَيْتُ الْمَعْمُورُ فِي السَّمَاءِ السَّابِعَةِ يَدْخُلُهُ كُلَّ يَوْمٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ ثُمَّ لَا يَعُودُونَ إِلَيْهِ )). وإنّما سمّي معمورا، من العمرة وهي الزّيارة، أو من العِمارة، ففي كلّ وقت وحين يطوف العباد ببيت ربّ العالمين، فذاك معمور في السّماء، وذاك معمورٌ في الأرض. والله الموفّق. تابع: الباب الخامس عشـر: ( التّرغيب في سُكنى المدينة إلى الممات، وما جاء في فضلها، وفضل أُحُدٍ، ووادي العقيق ). فمن فضائل المدينة النّبويّة: الفضل الثّامن: أنّ بـهـا بـقـاعا مبـاركـة. * الحديث الثّالث والعشـرون: 1208-وَعَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِأَبِي طَلْحَةَ: (( الْتَمِسْ لِي غُلَامًا مِنْ غِلْمَانِكُمْ يَخْدُمُنِي )). فَخَرَجَ بِي أَبُو طَلْحَةَ يُرْدِفُنِي وَرَاءَهُ، فَكُنْتُ أَخْدُمُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كُلَّمَا نَزَلَ، ثُمَّ أَقْبَلَ حَتَّى إِذَا بَدَا لَهُ أُحُدٌ قَالَ: (( هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ )). فَلَمَّا أَشْرَفَ عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: (( اللَّهُمَّ إِنِّي أُحَرِّمُ مَا بَيْنَ جَبَلَيْهَا، مِثْلَ مَا حَرَّمَ بِهِ إِبْرَاهِيمُ مَكَّةَ،-قَالَ-: اللَّهُمَّ بَارِكْ لَهُمْ فِي مُدِّهِمْ وَصَاعِهِمْ )). [رواه البخاري ومسلم-واللّفظ له-].
إنّ بالمدينة بقاعاً عظُمت عند الله حتّى أحبّت أهل الإيمان، وتشتاق إلى أهل الإحسان، منها جبل أحد. ومثل هذا الحديث ما رواه الشّيخان عَنْ أَبِي حُمَيْدٍ رضي الله عنه قَالَ: أَقْبَلْنَا مَعَ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ، حَتَّى إِذَا أَشْرَفْنَا عَلَى الْمَدِينَةِ، قَالَ: (( هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ، جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ )). قال الخطّابي في شرح قوله صلّى الله عليه وسلّم: (( هَذَا جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ )):" أراد به أهلَ المدينة وسكّانَها، كما قال تعالى:{وَاسْأَلِ القَرْيَةَ} أي: أهلَ القرية ". قال البغويّ:" والأولى إجراؤه على ظاهره، ولا يُنكر وصفُ الجمادات بحبّ الأنبياء والأولياء وأهل الطّاعة، كما حنّت الأسطُوانةُ على مفارقته صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، حتّى سمع القوم حنينها إلى أن سكّنها، وكما أخبر: أنّ حجرًا كان يسلِّم عليه قبل الوحي، فلا يُنكر عليه أن يكون جبل أحد وجميع أجزاء المدينة تحبّه، وتحنّ إلى لقائه حالة مفارقته إيّاها ". قال الحافظ المنذري:" وهذا الّذي قاله البغوي حسن جيّد، والله أعلم. وقد روى الترمذي من حديث الْوَلِيدِ بْنِ أَبِي ثَوْرٍ، عَنْ السُّدِّيِّ، عَنْ عَبَّادِ بْنِ أَبِي يَزِيدَ، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ:" كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِمَكَّةَ، فَخَرَجْنَا فِي بَعْضِ نَوَاحِيهَا، فَمَا اسْتَقْبَلَهُ جَبَلٌ وَلَا شَجَرٌ إِلَّا وَهُوَ يَقُولُ: السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ ! ". وقال التّرمذي: "حديث حسن غريب". تـنـبـيـه: هذا الحديث الذي فيه تسليم الحجر على النبيّ صلّى الله عليه وسلّم ، ذكره النّاسخ أو الطّابع أو الشّيخ الألباني رحمه الله على أنّه من أحاديث الباب، والمتأمّل يُدرِك أنّه لا علاقة له بفضائل المدينة، وإنّما أورده المصنّف رحمه الله نظيرا لتكليم الجماد للنبيّ صلّى الله عليه وسلّم، والله أعلم. ومن البقاع المباركة أيضا وادي العقيق، ولذلك ساق فيه حديثين اثنين: * الحديث الرّابع والعشـرون: 1210-وَعَنْ عَائِشَةَ رضي الله عنها أَنَّ النَبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( أَتَانِي آتٍ وَأَنَا بِالعَقِيقِ، فَقَالَ: إِنَّكَ بِوَادٍ مُبَارَكٍ )). [رواه البزّار بإسناد جيّد قويّ] . * الحديث الخامس والعشـرون: 1211-وَعَنْ عُمَرَ بْنِ الخَطَّابِ رضي الله عنه قَالَ: حَدَّثَنِي رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( أَتَانِي اللَّيْلَةَ آتٍ مِنْ رَبِّي، وَأَنَا بِـ ( العَقِيقِ )، أَنْ: صَلِّ فِي هَذَا الْوَادِي الْمُبَارَكِ )).
وادي العقيق: هو بقرب البقيع، بينه وبين المدينة أربعة أميال. قال الحافظ: وفي الحديث فضل العقيق كفضل المدينة، وفضل الصّلاة فيه. وقد جاء في فضل العقيق أمران غير صحيحين: أ) الأوّل: أنّه مهلّ أهل العراق، والحديث في "سنن التّرمذي" بسند ضعيف عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم وَقَّتَ لِأَهْلِ الْمَشْرِقِ الْعَقِيقَ. وهو منكر لمخالفته الصّحيح، فقد روى مسلم عن جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيِّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( وَمُهَلُّ أَهْلِ الْعِرَاقِ مِنْ ذَاتِ عِرْقٍ )) ولمّا ظنّ بعضهم صحّته جعلهم يجمعون بين هذين الحديثين، فقال ابن عبد البرّ رحمه الله عن الإحرام من العقيق:" هو أحوط من ذات عرق ". ب) الثّاني: التختّم من أحجاره، فقد رُويت فيه أباطيل وأكاذيب، لا يصحّ منها شيء. وقد فات المصنّف فضائل أخرى للمدينة:
والكير هو ما ينفخ فيه الحدّاد، والمراد أنّها لا تترك فيها من في قلبه دغل، بل تميّزه عن القلوب الصّادقة، وتخرجه كما يميّز الحدّاد رديء الحديد من جيّده. فقد روى البخاري ومسلم عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه أَنَّ أَعْرَابِيًّا بَايَعَ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم عَلَى الْإِسْلَامِ فَأَصَابَ الْأَعْرَابِيَّ وَعْكٌ بِالْمَدِينَةِ، فَأَتَى الْأَعْرَابِيُّ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! أَقِلْنِي بَيْعَتِي. فَأَبَى رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، ثُمَّ جَاءَهُ فَقَالَ: أَقِلْنِي بَيْعَتِي، فَأَبَى، فَخَرَجَ الْأَعْرَابِيُّ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم: (( إِنَّمَا الْمَدِينَةُ كَالْكِيرِ تَنْفِي خَبَثَهَا وَيَنْصَعُ طِيبُهَا )). ولا تزال تنفي الخبيث وتميّزه إلى قيام السّاعة، فقد روى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( يَأْتِي عَلَى النَّاسِ زَمَانٌ يَدْعُو الرَّجُلُ ابْنَ عَمِّهِ وَقَرِيبَهُ: هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ ! هَلُمَّ إِلَى الرَّخَاءِ ! وَالْمَدِينَةُ خَيْرٌ لَهُمْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ، وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَخْرُجُ مِنْهُمْ أَحَدٌ رَغْبَةً عَنْهَا إِلَّا أَخْلَفَ اللَّهُ فِيهَا خَيْرًا مِنْهُ، أَلَا إِنَّ الْمَدِينَةَ كَالْكِيرِ تُخْرِجُ الْخَبِيثَ، لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى تَنْفِيَ الْمَدِينَةُ شِرَارَهَا كَمَا يَنْفِي الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ ". ومن أجل ذلك، إذا خرج الدجّال رجفت المدينة، فيخرج كلّ منافق منها.
فقد روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ: (( إِنَّ الْإِيمَانَ لَيَأْرِزُ [ أي: ينضمّ ويجتمع ] إِلَى الْمَدِينَةِ كَمَا تَأْرِزُ الْحَيَّةُ إِلَى جُحْرِهَا )). ولذلك جعلها الله تعالى مأوى النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وأصحابه يوم ضاقت بهم الأرض بما رحُبت، واجتمع عليهم أهل الشّرك والكفر. حتّى صارت تُلقّب بدار الهجرة.
هما: المسجد النّبويّ، ومسجد قباء، وقد سبق الكلام عليهما.
وقد عقد المصنّف بابا كاملا لذلك، وهو الباب التّالي والأخير. الباب السّادس عشـر: ( التّرهيب من إخافة أهل المدينة أو إرادتهم بسوء ). الحمد لله، والصّلاة والسّلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أمّا بعد: فهذا الباب هو آخر أبواب كتاب الحجّ، عقده المصنّف رحمه الله ليبيّن حُرمة المدينة ومنزلتها عند الله، ومرتبتها عند رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، وقد كتب الله لمن عظّم حرماته أن يُعظّمه، ويلبسه لباس المهابة ويُكرمه. وما من أحدٍ جلب على أهل المدينة الخوف والهلع، وأدخل عليهم الفزع، إلاّ أذلّه الله وصغّره، وكساه ثوب مهانة وحقّره، وتتابعت عليه لعنات الخلق أجمعين، ولا يجدُ له من وليّ ولا نصير أو مُعين.
* الحديـث الأوّل: 1212-عَنْ سَعْدٍ رضي الله عنه قَالَ: سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( لَا يَكِيدُ أَهْلَ الْمَدِينَةِ أَحَدٌ، إِلَّا انْمَاعَ كَمَا يَنْمَاعُ الْمِلْحُ فِي الْمَاءِ )). [رواه البخاري ومسلم]. وفي رواية لمسلم: ((... وَلَا يُرِيدُ أَحَدٌ أَهْلَ الْمَدِينَةِ بِسُوءٍ، إِلَّا أَذَابَهُ اللَّهُ فِي النَّارِ ذَوْبَ الرَّصَاصِ أَوْ ذَوْبَ الْمِلْحِ فِي الْمَاءِ )). وقد روي هذا الحديثُ عن جماعة من الصّحابة في " الصّحاح " وغيرها.
- قوله: ( يَكِيد ): من الكيد، أي: أراد بأهل المدينة سوءا. ومن أخطاء النّاس اليوم إذا أرادوا أن يؤكّدوا الوعد أو القول قالوا: (أكيد) !! وليس له معنى في اللّغة إلاّ أنّه فعل مضارع لـ( كاد يكيد كيدا ) فتنبّه ! فإذا رام الفصاحة، فعليه أن يقول: مؤكّد. وليس هذا موضع بسط تعليل وجه التّخطئة. - قوله: ( اِنْمَاعَ): من الميوعة، وهي السّيلان والذّوبان، ومنه يقال للشّيء السّائل: ( مائع ) كالزّيت والماء والخلّ ونحو ذلك. الشّاهد: أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم شبّه أهل المدينة لوفور علمهم، وصفاء قرائحهم بالماء، وشبّه من يريد بهم كيدا وسوءا بالملح. فعقابه يوم القيامة أنّ الله يُذيبه في النّار كما يذوب الملح في الماء، وفي الرّواية الأخرى: ( ذَوبَ الرَّصَاصِ في النّار ). * الحديث الثّـانـي: 1213-وَعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رضي الله عنه: أَنَّ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الْفِتْنَةِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ، وَكَانَ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُ جَابِرٍ، فَقِيلَ لِجَابِرٍ: لَوْ تَنَحَّيْتَ عَنْهُ، فَخَرَجَ يَمْشِي بَيْنَ ابْنَيْهِ، فَانْكَبَّ، فَقَالَ: تَعِسَ مَنْ أَخَافَ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ! فَقَالَ ابْنَاهُ أَوْ أَحَدُهُمَا: يَا أَبَتِ ! وَكَيْفَ أَخَافَ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَقَدْ مَاتَ ؟! قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (( مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ جَنْبَيَّ )). [رواه أحمد ورجاله رجال "الصّحيح"]. ورواه ابن حبان في "صحيحه" مختصرا، قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (( مَنْ أَخَافَ أَهْلَ المَدِينَةِ أَخَافَهُ اللهُ )).
- قوله: ( أَنَّ أَمِيرًا مِنْ أُمَرَاءِ الْفِتْنَةِ قَدِمَ الْمَدِينَةَ ): يقصِد فتنة الحرّة الّتي أجّج نارها وزاد أوراها مسلم بن عقبة، حيث استُبِيحت فيها المدينة ثلاثة أيّام. - قوله: ( مَنْ أَخَافَ أَهْلَ الْمَدِينَةِ، فَقَدْ أَخَافَ مَا بَيْنَ جَنْبَيَّ ): وهذا وعيد شديد لمن أحدث في المدينة جنايةً يُخيف بها أهل المدينة، فإنّه يكون بذلك قد آذى رسول الله صلّى الله عليه وسلّم، والله يقول:{ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } [ التّوبة من: (61)]، ويقول:{ إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمْ اللَّهُ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَاباً مُهِيناً (57)} [الأحزاب]. * الحديثان: الثّالث والرّابع. 1214-وَعَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: (( اللَّهُمَّ مَنْ ظَلَمَ أَهْلَ المَدِينَةِ وَأَخَافَهُمْ فَأَخِفْهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَالمَلاَئِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهُ صَرْفٌ وَلاَ عَدْلٌ )). [رواه الطبراني في "الأوسط"، و"الكبير" بإسناد جيّد]. 1215-وروى النّسائي، والطّبراني، عَنِ السَّائِبِ بْنِ خَلاَّدٍ رضي الله عنه عَنْ رَسُولِ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (( اللّهُمَّ مَنْ ظَلَمَ أَهْلَ المَدِينَةِ وَأَخَافَهُمْ فَأَخِفْهُ، وَعَلَيْهِ لَعْنَةُ اللهِ، وَالمَلاَئِكَةِ، وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ، لاَ يَقْبَلُ اللهُ مِنْهُ صَرْفًا وَلاَ عَدْلاً )).
اختلف العلماء في شرح معنى ( الصّرف )، و( العدل ) على أقوال لكثيرة، بلغت عشرة، ذكرها الحافظ في " فتح الباري "، وذكر المصنّف بعضا منها، أهمّها: - (الصّرف): هو الفريضة، و(العدل): التطوّع، قاله سفيان الثّوري. - وقيل بالعكس: ( الصّرف ): هو النّافلة، و( العدل ) هو الفريضة، وهذا قاله الحسن البصريّ. - وقيل: ( الصّرف): التوبة، و( العدل ): الفدية، قاله مكحول والأصمعيّ. - وقيل: ( الصّرف): الاكتساب، أي عمله لنفسه، و( العدل ): الفدية، قاله يونس بن حبيب. - وقيل: ( الصّرف ): الوزن، و( العدل ): الكيل، قاله ابن دريد. وقيل غير ذلك. - وأحسن من ذلك قول من قال: ( الصّرف ) الشّفاعة، و( العدل ): الفدية، فيوافق قوله تعالى:{ وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ } [البقرة: من الآية 48]، لأنّ الشّفاعة تصرف العذاب، وبهذا جزم البيضاوي. وبهذا نأتي على نهاية " كتاب الحجّ " من صحيح التّرغيب والتّرهيب. وجزى الله عنّا كلّ خير من دعا لنا بظهر الغيب أن يثبّتنا الله على الهدى، ويُجنّبنا مزالق الهوى والرّدى. نسأل الله تعالى بأسمائه الحُسنى، وصفاته العُلى، أن يُعلّمنا ما ينفعنا، وأن ينفعنا بما علّمنا، وأن يزيدنا علما. نسأله تعالى الّذي بيده خزائن السّموات والأرض أن يُيسّر للمسلمين والمسلمات حجّ بيته الحرام، وأن يحُطّ عنّا وعنهم المعاصي والآثام، وأن يحشرنا مع سيّد الأنام، حبيبنا وقرّة أعيننا محمّد عليه الصّلاة والسّلام، إنّه وليّ ذلك والقادر عليه. سبحانك اللهمّ وبحمدك، أشهد أن لا إله إلاّ أنت، أستغفرك وأتوب إليك.
|