شرح كتاب الحجّ 05: اِسْتَمْتِعُوا بِهَذَا البَيْتِ، فَقَدْ هُدِمَ مَرَّتَيْنِ-هل الحجّ يجب على الفور ؟
اِسْتَمْتِعُوا بِهَذَا البَيْتِ، فَقَدْ هُدِمَ مَرَّتَيْنِ
-عَنِ ابْنِ عُمَرَ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:(( اِسْتَمْتِعُوا بِهَذَا البَيْتِ، فَقَدْ هُدِمَ مَرَّتَيْنِ، وَيُرْفَعُ فِي الثَّالِثَةِ )).]رواه البزّار والطّبراني في "الكبير"، وابن خزيمة وابن حبّان في "صحيحيهما"، والحاكم، وقال:"صحيح الإسناد".[
قال ابن خزيمة: (وَيُرْفَعُ فِي الثَّالِثَةِ):" يريد بعد الثّالثة ".
في هذا الحديث مسائل عدّة:
- الأولى: التّرغيب الشّديد في الإكثار من الحجّ والعمرة، والاستمتاع بالبيت، والمراد من الاستمتاع به الطّواف به، والصّلاة والدّعاء عنده، واستلام ركنيه، والصّلاة عند مقام إبراهيم، وغير ذلك من المناسك المشروعة.
- الثّانية: والحديث يدلّ أنّ اقتصاره صلّى الله عليه وسلّم على حجّة واحدة، وأربع عمرات إنّما كان عرضا ولعذر مانع، أو خوفا منه أن يشقّ على أمّته، والعبرة بما استحبّه لأمّته، شأن ذلك شأن كثير من العبادات التي لم يفعلها ولكنّه حضّ عليها كالتمتّع بالعمرة إلى الحجّ.
- الثّالثة: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلّمَ )) ويُرفع في الثّالثة (( يعني به هدم الأحباش للبيت، روى البخاري ومسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ )) يُخَرِّبُ الْكَعْبَةَ ذُو السُّوَيْقَتَيْنِ مِنْ الْحَبَشَةِ ((.
- الفائدة الرّابعة: إنّ بيت الله الحرام أمارة دالّة وعلامة قائمة على شعائر الله وعلى بقاء دين الله تعالى.
وهذا ما فسّر به السّلف قوله عزَّ وَجَلَّ:{جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَاماً لِلنَّاسِ} [المائدة من:97] فالمراد بقوله: ( قياما ) أنّه ما دامت الكعبة موجودة فالدّين قائم.
وقد روى ابن أبي حاتم بإسناد صحيح عن الحسن البصري رحمه الله أنّه تلا هذه الآية فقال:" لاَ يَزَالُ النَّاسُ عَلَى دِينٍ مَا حَجُّوا البَيْتَ وَاسْتَقْبَلُوا القِبْلَةَ "، وعن عطاء رحمه الله قال:" قِيَامًا لِلنَّاسِ: لو تركوه عاما لم ينظروا أن يهلكوا ".
والأخبار تؤيّد هذا المعنى، فقد قال النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (( لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لَا يُحَجَّ الْبَيْتُ )).
- الفائدة الخامسة: قيل: هذا الحديث يخالف قوله تعالى:{أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ} [القصص: من الآية57] !
ولأنّ الله حبس عن مكّة الفيل، ولم يمكِّن أصحابه من تخريب الكعبة، ولم تكن إذ ذاك قبلة، فكيف يسلّط عليها الحبشة بعد أن صارت قبلة للمسلمين !؟
والجواب عن ذلك من ثلاثة أوجه:
1- بأنّ ذلك محمول على أنّه يقع في آخر الزّمان قرب قيام السّاعة، حيث لا يبقى في الأرض أحدٌ يقول " الله الله "-كما ثبت في صحيح مسلم : (( لاَ تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى لاَ يُقَالَ فِي الأَرْضِ اللهُ اللهُ)) . ولهذا جاء في رواية الإمام أحمد (( لاَ يُعَمَّرُ بَعْدَهُ أَبَدًا ))، هذا جواب الحافظ ابن حجر.
2- قالوا: قوله تعالى :{أَوَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا حَرَمًا آمِنًا} أي آمنا من العدوّ، وإنّ ما يتخلّله من الرّعب إنّما وقع بأيدي المسلمين، فهو مطابق لقوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ((لَنْ يَسْتَحِلَّ هَذَا البَيْتَ إِلاَّ أَهْلُهُ ))
3- ثمّ إنّه ليس في الآية أنّ ذلك مستمرّ.
الفائدة السّادسة: قوله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (( فإنّه قد هدم مرّتين.. )).نصّ في أنّ البيت قد هُدم مرّتين، الأولى أنّه هُدِم بعد إبراهيم عليه السَّلام، فبناه قوم من العرب من جرهم.ثمّ هُدِم فبنته قريش وشارك النبيّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم في بنائه، على ما هو ثابت في السّيرة.
الفائدة السّابعة: قوله: (( ثمّ يرفع في الثّالثة )).استشكل أهل العلم ذلك لأنّه قد ثبت أنّه بقي بعد الثّالثة، وكانت الثّالثة في عهد بني أميّة، يوم أصابوه بالمنجنيق فهدِم بعضه، فأعاد بناءه عبد الله بن الزّبير رَضِيَ اللهُ عَنْهُ، روى البخاري عَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم قَالَ لَهَا: (( يَا عَائِشَةُ !لَوْلَا أَنَّ قَوْمَكِ حَدِيثُ عَهْدٍ بِجَاهِلِيَّةٍ لَأَمَرْتُ بِالْبَيْتِ فَهُدِمَ، فَأَدْخَلْتُ فِيهِ مَا أُخْرِجَ مِنْهُ، وَأَلْزَقْتُهُ بِالْأَرْضِ، وَجَعَلْتُ لَهُ بَابَيْنِ: بَابًا شَرْقِيًّا، وَبَابًا غَرْبِيًّا، فَبَلَغْتُ بِهِ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ )) قال عُروةُ: فَذَلِكَ الَّذِي حَمَلَ ابْنَ الزُّبَيْرِ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ عَلَى هَدْمِهِ. قَالَ يَزِيدُ: وَشَهِدْتُ ابْنَ الزُّبَيْرِ حِينَ هَدَمَهُ وَبَنَاهُ، وَأَدْخَلَ فِيهِ مِنْ الْحِجْرِ، وَقَدْ رَأَيْتُ أَسَاسَ إِبْرَاهِيمَ حِجَارَةً كَأَسْنِمَةِ الْإِبِلِ.
* فإمّا أن يقال: إنّه صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يعدّ ذلك هدما، وهذا بعيد.
* أو أنّه كما قال ابن خزيمة رحمه الله:" قوله: يُرفع في الثّالثة أي بعد الثّالثة "، أي: إن هُدم في المرّة الثّالثة فإنّه سيُرفع ورفعه يكون بهدمه بنصّ حديث ذي السّويقتين.
هل الحجّ يجب على الفور ؟
وروي عن ابن عبّاس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صَلّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:
(( تَعَجَّلُوا إِلَى الحَجِّ - يعني: الفَرِيضَةَ - فَإِنَّ أَحَدَكُمْ لاَ يَدْرِي مَا يَعْرِضُ لَهُ )).
- استدّل بهذا الحديث من قال: إنّ الحجّ واجب على الفور لمن قدِر عليه، وهو قول الإمامين مالك وأبي حنيفة، واختيار بعض أصحاب الشّافعي.
وقال الشاّفعي والأوزاعي وأبو يوسف ومحمّد بن الحسن الشّيباني: إنّه على التّراخي، واحتجوا بأنّه صلَّى الله عليه وسلَّم حجّ سنة عشر، وفرض الحجّ كان سنة ستّ أو خمس.
وأجيب: بأنّه قد اختلف في الوقت الّذي فرض فيه الحجّ، ومن جملة الأقوال أنّه فرض سنة تسع أو عشر، وهما أقوى وأصحّ.
وإنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لم يحجّ إلاّ العام العاشر، فإذا كان الحجّ فرض ذلك العام فلا إشكال.
أمّا إن كان فُرِض العام التّاسع فلماذا لم يحجّ صلّى الله عليه وسلّم، واكتفى صلّى الله عليه وسلّم بأن يبعث المسلمين إلى الحجّ على رأسهم صدّيق الأمّة أبو بكر رضي الله عنه، حتّى سمّيت هذه الحجّة بحجّة أبي بكر رضي الله عنه ؟
فالجواب عن ذلك من وجهين اثنين:
- انشغاله باستقبال الوفود، فإنّ العام التّاسع سمِّي بعام الوفود لكثرتهم.
- أنّ المشركين ما زال منهم من هو على شركه يعصمه عهدٌ بينه وبين النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم، وما كان النبيّ صلَّى الله عليه وسلَّم ليجتمع مع المشركين في طوافه وسعيه، لشركهم وانحلالهم، لذلك كانت هذه الحجّة مصحوبةً ببيانين عظيمين:
الأوّل: منع التعرّي داخل المسجد الحرام أثناء الطّواف.
وكانت تلك من عادات الجاهليّة الّتي نزل لإبطالها قوله تعالى:{يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِد} [الأعراف: من الآية31].
الثّاني: ألاّ يحجّ بعد هذا العام مشركٌ.
فلمّا طهّر الله البيت الحرام منهم حجّ صلَّى الله عليه وسلَّم، فكان تراخيه لعذر، ومحلّ النزاع التراخي مع عدمه، وانظر لذلك "زاد المعاد"، و" نيل الأوطار ".
نعم، لقائل أن يقول: فلماذا لم يحجّ كلّ الصّحابة العام التّاسع، وهم ليس لديهم عذر مثل عذر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم ؟
فالجواب: كان الغالب على الصّحابة رضي الله عنهم الحاجة، فما كان بمستطاع كلّ واحدٍ منهم أن يجد الزّاد والرّاحلة وما يلزم للحجّ،وليس هناك ما يدفعه لبذل المجهود لذلك، وتكليف نفسه ما لا تطيقه.
أمّا وقد عزم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم أن يحجّ العام العاشر، فحينها تسقط جميع المشاقّ، وتذوب جميع الأعذار، فيبذل كلّ واحد منهم ما لديه، ويبيع ما خلفه وما بين يديه، ليحجّّ مع نبيّ الله صلّى الله عليه وسلّم
|