فكما ورد في السّؤال فإنّ الخلاف بين الفقهاء شديد في مسألة ( حكم التّرتيب بين أعضاء الوضوء )، وأرى أنّ سؤالك ليس عن المسألة ذاتها، ولكن عن أحد أدلّة القائلين بالوجوب، وهو: ( أنّ الواو تفيد التّرتيب ).
ولنا ثلاث نقاط نُوضِحُها في هذه العُجالة:
النّقطة الأولى: فالّذين ذهبوا إلى وجوبه، هم الشّافعيّة والحنابلة والظّاهريّة، وبه قال أبو ثور وأبو عبيد. [" المجموع " للنّووي (1/433)، و" المغني " لابن قدامة (1/100)، و" المحلّى " لابن حزم (2/66)].
ولكن لم يستدلّ جميع هؤلاء باقتضاء الواو التّرتيب، بل إنّ أكثر هؤلاء لا يرى أنّ الواو تفيد التّرتيب، وإنّما استدلّوا بأدلّة أخرى، موضع بسطها المراجع المذكورة آنفا.
النّقطة الثّانية: الواو لا تفيد التّرتيب على الصّحيح.
فالواو لمُطْلَقِ الجمع، بمعنى أنّها تعطف متأخِّراً في الحكم نحو:{ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحاً وَإبْرَاهِيمَ }، ومتقَدِّماً نحو:{ كَذَلِكَ يُوحِى إِلَيْكَ وَإلَى الّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ }، ومصاحبا نحو:{ فَأَنْجَيْنَاهُ وَأَصْحَابَ السَّفِينَةِ }.
وقد بالغ بعضهم فنقل الإجماع على أنّها تفيد التّرتيب، وهو الإمام السّيرافيّ رحمه الله، فقال:" إنّ النّحويّين واللّغويين أجمعوا على أنّها لا تفيد التّرتيب "، وقد ردّه ابن هشام رحمه الله في " المغني "، وبيّن أنّه لا إجماع في هذه المسألة، بل قال بإفادتها التّرتيب: قطرب، والرّبعي، والفرّاء، وثعلب، وأبو عمر الزّاهد، وهشام، والشّافعيّ.
النّقطة الثّالثة: التّرتيب في اللّفظ يدلّ على التّرتيب في الذّهن.
فقد تعارف النّاس على أنّ أوّل ما يجري على اللّفظ واللّسان هو ما جرى على القلب والجَنان. لذلك يقف العلماء أمام المعطوفات، وينظرون علّة تقديم بعضها على بعض.
فالواو – إن لم تُفِدْ التّرتيب في الواقع - فهي تفيد التّرتيب في الذّهن. ويدلّ على ذلك:
1- ما رواه مسلم عَنْ جَابِرٍ رَضِي اللهُ عنْهُ أنَّ النَّبِيَّ صلّى الله عليه وسلّم قَالَ عِنْدَمَا تَلاَ قوْلَهُ تَعالى:{إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ} [البقرة: من الآية158]: (( أَبْدَأُ بِمَا بَدَأَ اللهُ بِهِ )).
ففيه إشارة إلى أنّ أمور العبادات تبقى على ما ذكرها الله في كتابه لا يقدّم العبد فيها شيئا أخّره الله، ولا العكس.
2- وروى البيهقيّ في "سننه" (6/205) عن عبد الله بن حشرج عن أبيه أنّه جاء يوم الفتح مع أبي سفيان بن حرب ورسول الله صلّى الله عليه وسلّم حوله أصحابه، فقالوا: هذا أبو سفيان وعائذ بن عمرو، فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: (( هَذَا عَائِذُ بْنُ عَمْرٍو وَأَبُو سُفْيَانَ، الإِسْلاَمُ أَعَزُّ مِنْ ذَلِكَ، الإِسْلاَمُ يَعْلُو وَلاَ يُعْلَى )).
[وقد رواه الدّارقطني في "سننه" (2/176-177)، والرّوياني في "مسنده" (2/37) من حديث عائذ بن عمرو المزنيّ رضي الله عنه، وحسّنه الحافظ في "فتح الباري" (3/220)].
فنلحظ أنّ النبيّ صلّى الله عليه وسلّم يرى أنّ التّقديم في اللفظ يدلّ على التّقديم في الذّهن، فقدّم ما يستحقّ التّقديم، وأخرّ ما يستحقّ التّأخير.
3- ويوم قال سحيم عبدُ بني الحسحاس:
عُميرة ودِّع إن تجهّزت غاديا كفى الشّيب والإسلام للمرء ناهيا
فقال له عمر رضي الله عنه: لو قدّمت الإسلامَ على الشَّيبِ لأجزتُكَ.
كذلك التّرتيب في آية الوضوء مقصود، لأنّ الله تعالت حكمته ذكر ( الرّأس ) وهو ممسوح بين ( الأعضاء الأخرى ) وهي مغسولة، وكان مقتضى الظّاهر أن تتّصل المغسولات بعضها ببعض، وتذكر قبل الممسوح أو بعده، لأنّ المغسولات متماثلة، والعرب لا تفصل بين المتماثلات إلاّ لحكمة، والحكمة هنا هي إفادة وجوب أو استحباب التّرتيب بين أعضاء الوضوء في الطّهارة.
ومن أجل ذلك قال الإمام القرطبيّ رحمه الله في " تفسيره ":" والأولى وجوب التّرتيب "، أي: في الوضوء.
والله تعالى أعلم.